من المعروف أن الفقهاء رجالا كانوا أو نساء لا يملكون حق التشريع، ولكن ما يقومون به هو اجتهاد لفهم النص وفق آليات محددة، وليس وفق أهوائهم، وهذه الآليات هي مجموعة قواعد أصول الفقه.
فالمجتهد لا يتعامل مع النص وفق ثقافته وموروثاته المعرفية، ولكنه يتعامل مع النص وفق مجموعة من الأطر والقواعد، غاية ما هناك أن كل فقيه من الفقهاء يأخذ بما ترجح إليه من أطراف هذه القواعد والأطر.
فمن المجتهدين من يذهب مثلا إلى أن القياس يخصص عموم النصوص، ومنهم من يرفض ذلك مغلِّبًا عموم النص على القياس، ومن الفقهاء من يرفض عمل القياس جملة كابن حزم الظاهري…وهكذا. فالتباين بين المجتهدين في اختياراتهم الفقهية، مرجعه إلى اختلافهم حول ما اختاره كل واحد منهم لنفسه من هذه الأدوات التي يفهم بها النص.
دور الاتجاهات النفسية في الاجتهاد
لكننا لا نستطيع أن ننكر هنا أن بعضا من هذا التباين في الاجتهاد قد يعود إلى اعتبارات شخصية وذاتية، لا علاقة لها بالنص، كما أن هذه الاعتبارات قد تكون هي المسئولة عن اختيار هذه القواعد، التي يفهم بها المجتهد النص.
فثمة خيارات أصولية وفقهية، يدرك البصير أن سببها نفسية المجتهد. فالنفوس ليست آلات صمّاء حتى إزاء تعاملها مع النصوص.
فمن الناس من يميل إلى التحوط والتشدد في مواقفه كلها فضلًا عن المواقف الدينية ، ومن الناس من يميل إلى التيسير في مواقفه كلها فضلًا عن مواقفه الدينية، فلا تكاد تدري هل السبب في تكوين هذه السيكولوجية، هو النص ذاته، أو أن هذه السيكولوجية تكونت أوّلًا، ثم تسربلت بالنص الذي يغذي هذه الميول لديها.
التيسير والتحوط
فثنائية مثل التيسير والتحوط، ستجد من النصوص ما يمكن أن يعتمد عليه كل من اختار طرفًا من هذه الثنائية. فمن يميل إلى التيسير، سيجد قوله ﷺ: « بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا»[1]
وعن عائشة رضي الله عنها “ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى، فينتقم لله عز وجل بها.[2]
ومن يميل إلى التحوط سيجد قوله ﷺ: ” إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا ولكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه، فقد استبرأ لدينه وعرضه”[3]
وسيجد قوله ﷺ : ” وقال رسول الله ﷺ: ” دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك” [4]
وتكونت على ضفاف كلتا النظرتين قواعد أصولية، تحكم المجتهدين في التعامل مع النصوص، ففي النظرة التحوطية نشأت القاعدة الأصولية: ” الشريعة مبناها على التحوط” وتكونت القاعدة الأصولية : ” الخبر الدال على التحريم مقدم على الخبر الدال على الإباحة” تلك النظرة التي مال إليها أغلب الأصوليين.[5]
وعلى ضفاف نظرة التيسير، نشأ الاستعصام بالمبدأ العام للشريعة ( الحرج مرفوع) وإن كان الآخذون به من الأصوليين أقل من أصحاب النظرة الأولى.[6]
أبو بكر وعمر بن الخطاب
ومن الأمثلة البارزة هنا ، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.
ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر.
فقد استشار النبي ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر فقال: “إن الله قد أمكنكم منهم” فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم! فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد رسول الله ﷺ، فقال: “يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!” فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فاضرم الوادي عليهم نارا، ثم ألقهم فيه!
فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد النبي ﷺ، فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء.
وقال النبي ﷺ عندئذ:”إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (سورة إبراهيم: 36). وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (سورة المائدة: 118). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (سورة يونس: 88). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (سورة نوح: 26). [7]
ليس تشهيًا
على أن هذا النزوع النفسي شيء آخر غير التشهي، فكما أسلفنا، إن هذا الجنوح المشروع لا يكاد يدري صاحبه، هل السبب في تكوينه هو النص ذاته، أو أن هذا النزوع تكون أوّلًا، ثم تسربل بالنص الذي يغذي هذه الميول لديه.
ومن الأمارات الفارقة بين هذا الجنوح المقبول وبين والهوى المرذول : أن لا يكون الضاغط على جنوح المجتهد للقول الأيسر، قرابة أوصداقة أو تبعية للمستفتي. بل هو دائر مع قواعده الأصولية التي كوَّنها دون ضغط من قرابة أو صداقة.
ابن المنير والمفتي الشفوق
ومما يمكن أن يستشهد به هنا ما حكاه ابن المنير عن بعض العلماء، أنه كان شافعي المذهب، وكان التقليد المذهبي يقضي أنه لا يجوز أن ينتقل المقلد من مذهب لآخر، وكان هذا الشيخ الشافعي يستشكل المنع من تتبع الرخص في المذاهب ، وكان يقول : أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول: كل مجتهد مصيب، وإن المصيب واحد غير معين، والكل دين الله، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله؟
وكان من شدة إشفاقه على العوام، أنه إذا جاء من يستفتيه في حِنْث ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي، ولا يحنث على مذهب مالك قال لابن المنير: أفته أنت؛ ليفتيه بالأسهل على مذهب الإمام مالك، أي أنه كان يتقيد بالالتزام المذهبي، لكنه كان لا يستطيع أن يغالب طبيعته النفسية التي تميل إلى التيسير والإشفاق، فكان يحيل المستفتي على من ييسر عليه وفق مذهب آخر غير المذهب الشافعي.
ابن القاسم وولده
ومما يذكر في هذا السياق أن (ابن القاسم) الفقيه المالكي، كان له ولد، حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام، فاستفتى أباه، فقال له: أفتيك فيها بمذهب الليث: كفارة يمين، وإن عدت أفتيك بمذهب مالك، يعني بالوفاء؛ وذلك أن مذهب مالك يقضي بوجوب المشي إلى بيت الله الحرام عند الحنث.
قال العلماء: ومحمل ذلك: أنه نقل له مذهب الليث لا أنه أفتاه به، وحمله عليه علمه بمشقة المشي على الحالف، أو خشية ارتكاب مفسدة أخرى، فخلصه من ذلك، ثم هدده بما يقتضي تحرزه من العادة. قلت: وربما كان ابن القاسم يرى التخيير، فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة، وأما بالتشهي فلا.[8]
[1] – متفق عليه، مشكاة المصابيح (2/ 1099)
[2] – متفق عليه ، جامع الأصول (11/ 248)
[3] – متفق عليه، جامع الأصول (10/ 567)
[4] – صحيح، رواه أحمد والنسائي.
[5] – انظر : الإحكام للآمدي 4 / 259 ؛ إحكام الفصول في أحكام الفصول للقاضي أبي الوليد الباجي 2 / 255 ؛ العدة لأبي يعلى 2 / 1042 ؛ التحبير شرح التحرير للمرداوي 8 / 4182 .
[6] – انظر :إحكام الفصول في أحكام الأصول للقاضي أبي الوليد الباجي 2 / 255 ؛ البحر المحيط للزركشي 8 / 195 .
[7] – مسند أحمد ط الرسالة (21/ 181)
[8] – انظر : البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 381)