لا شك أنه واحد من أولئك الذين أثاروا جدلا واسعا بأفكاره التي تعامل معها الإعلام بطريقته التهييجية المعتادة..

ولا شك أيضا أنه واحد من أولئك الذين لا يعرف كثيرون حقيقة جهده الحقوقي بوصفه واحدا من أهم رواد الحركة النقابية في مصر والعالم العربي قبل أن يتجه للكتابة في الفكر الإسلامي..

ولا شك كذلك في أنه بشر.. يصيب ويخطيء، وشأنه شأن كثيرين ممن تعاملوا مع الشأن الفقهي والفكري وحاولوا الإسهام في فهمه وتنزيله، أصابوا في بعض ما وصلوا إليه وأخطأوا في بعضه الآخر، تبعا لمدى تسلحهم بأدوات هكذا عمل، بحسبانه صنعة يجب تحصيل أدواتها وفهمها قبل ولوجها..

وبعيدا عن الانتصار لشخصية جمال البنا، أو التقليل منها والافتئات عليها، فإن واجبا قرآنيا يحتم علينا التعامل مع فكره وموروثه بشيء من العدالة في الفرز، انطلاقا من قوله تعالى: “ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله…”

لقد أفضى جمال البنا إلى ما قدم، وصار ما خلفه من تراث فكري ملكا للأمة، وفي ظل حالة الأفول الحضاري الذي تعيشه الأمة، وفي ظل حالة التراجع السريع الذي يلف جنباتها على مستويات شتى، فإن البحث في كل الأفكار واجب، والتأمل في المشتركات بين المدارس المختلفة خاصة التي تنحو منحى التجديد يعتبر أهم خطوات استعادة هذا الألق الحضاري المفقود، بحسبان الشريعة وتنزيلاتها على أرض الواقع هي الطريق الأسرع لاستعادة مكانة الأمة المفقودة..

ربما يستغرب القاريء لتلك القراءة التي لا يعرف عن صاحبها سوى التدخين في نهار رمضان، أو إنكار السنة… هكذا إجمالا… كما أراد الإعلام الباحث عن الإثارة والتهييج والعناوين الجاذبة للقراء والمشاهدين!!

لكن الحقيقة أن خلف هذا الخطاب الإعلامي التهييجي يكمن جهد فكري ربما تختلف معه، لكنه في النهاية له وعليه، وينبغي على الأجيال المتتابعة بذل جهد في محاولة استخراج ما في هذا الفكر من جهد نافع يمكن توظيفه ووضعه في إطاره الصحيح في بناء تراكم يمكن من خلاله استعادة الأمة لبوصلتها..

وحينما يكون الحديث عن مفهوم الشريعة مثلا أو فلسفة التشريع في فرائض الإسلام فإن القاريء سيتملكه الاستغراب والدهشة معا حينما يطالع هذه اللغة وذاك الفهم الذي لو تناسى أنه يقرأ لجمال البنا سيعتقد أنه يقرأ ربما للشيخ شلتوت أو للقرضاوي أو حتى لرشيد رضا!!

لست في معرض الدفاع عن أحد أو غسيل السمعة لأحد.. لكني أحاول قدر الطاقة التأكيد على المشتركات الفكرية داخل الحقل الإسلامي بعيدا عن الخطابات الإعلامية الباحثة عن الإثارة والجذب والتي يتحكم في نجاحها أو فشلها عدد الزوار أو القراء أو المشاهدين..

مفهوم الشريعة

بداية يرى جمال البنا أن المكونين الأساسيين للإسلام هما العقيدة والشريعة.. والعقيدة هى الإيمان بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر، وما يصطحب بهذا من غيب..

أما الشريعة فإنها الضوابط التى تضبط عالم “الدنيويات” من اقتصاد أو اجتماع أو حكم، كما تحكم العلاقات ما بين الرجل والمرأة، الحاكم والمحكوم الغنى والفقير الخ…

ويرى أن العقيدة هى الثوابت فى الإسلام، والأداة التى توصلها هى الوحى وتوجيه الأنبياء وهذا لا ينفى أن يكون للعقل دور حتى لا تتسلل الخرافة إلى العقيدة..

أما الشريعة فهي عنده ليست من الثوابت إلا من ناحية المقصد، أما حرفية النص فهو يتبع المقصد، ويدور لكى يحقق المقصد، فالله أراد بالشريعة تحقيق المصالح ودرأ المفاسد..

ويستشهد جمال البنا بما قاله ابن القيم فى إعلام الموقعين: “والشريعة عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت إليها بالتأويل…”

ثم يعلق البنا على ما قاله بن القيم قائلا: فابن القيم هنا يخرج من الشريعة كل ما يخالف العدل “وإن دخل فيها بطريق التأويل”، كما يدخل فى الشريعة كل ما يحقق العدل وإن لم ينص عليه تعيينا أو تحديداً فى الشريعة.

وأن تكون الشريعة فى جوهرها جلب مصلحة ودرء مفسدة أمر مقرر لدى الفقهاء، ووصل من القوة درجة ذهب فيها النجم الطوفى وهو فقيه حنبلى يتلو ابن تيمية وابن القيم.. إلى أن المصلحة هى المقصد الأسمى للشارع فإذا وجد نص يعارض المصلحة أخذنا بالمصلحة وأولنا النص وقد استمد هذه القاعدة من تفسيره لحديث لا ضرر ولا ضرار.

ثم يعلق جمال البنا تعليقا قد يستغربه من يعرف جرأته في العامل مع الاحكام الشرعية، حيث يقول عما ذهب إليه “الطوفي”: ورغم أن هذا المبدأ يبدو جريئاً، فقد سبق الطوفي من طبقه بالفعل، ذلكم هو عمر بن الخطاب فى اجتهاداته المعروفة عندما رأى أن تغيير الأوضاع يستتبع تغيير الحكم لأن الحكمة (أو كما يقول الفقهاء العلة) التى قام عليها النص انتفت أو تطلبت التعديل فسقط الحكم تلقائيا أو تطلب التعديل. فاجتهادات عمر وإن لم تعمل نص الحكم فإنها أعملت روحه وجوهره ومقصده وهذا هو المطلوب منها..

ويقرر أن أي جهد في طريق الإحياء الإسلامية لا بد وأن ينطلق من أن ما جاء من أحكام فى الشريعة إنما ينظر فيه من ناحية تحقيقه للمصلحة والعدل فإذا ظهر أن تغيير الأوضاع يتطلب تغيير الحكم حتى يتحقق العدل والمصلحة، فإن هذا لا يكون انتهاكا للنص وإنما إعمالاً لروحه ومقصده..

هل تختلف تلك اللغة وهذا الفهم عما هو مبثوث في كتب القرضاوي أو غيره من رواد مدرسة التجديد.. طبعا بغض النظر عن القدرة على التنزيل على أرض الواقع فتلك مهمة الفقهاء التي أخفق البنا قولا واحدا في ممارستها بحسبانه لم يمتلك أدوات الفقيه!!

تثوير النصوص

لم يقف جمال البنا عند حد التنظير الأولي وإنما حاول الإسهام في خطوة تنظيرية تالية لها خطورتها حيث أكد على أن المدلول التطبيقى لهذا المبدأ يمثل خطوة ثورية وجذرية فى التجديد الإسلامى لأنه يتضمن:

أولاً: إعادة النظر فى أحكام الشريعة بهدف التثبت فإذا كانت الآن – كما كانت فى الماضى – تحقق المصلحة وتستهدف العدل فبها ونعمت، وإن لم تكن وتخلفت – بفعل التطور – عن ذلك وجب التعديل فيها بما يحقق هدف الشارع وهو كما ذكرنا المصلحة والعدل.

ولا يقبل القول إن أحكام الشريعة تتضمن المصلحة بالفعل لأن الله تعالى أعلم بالناس والمصالح فإذا طبقناها طبقنا المصلحة، فقد رد الطوفى منذ سبعة قرون “ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأننا قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهى أقواها وأخصها فلنقدمها فى تحصيل المصالح..”

وطبقا لهذا المبدأ فإن جمال البنا يؤمن أن معظم الأحكام فى نصوص الشريعة تحقق بالفعل معظم المصلحة إن لم يكن كلها..

ولكنه يستدرك على نفسه سريعا حينما يقول: “وليس معنى المراجعة أن نضرب عرض الحائط بالنصوص، ولكن هي دراسة حظها فى تحقيق المصلحة فى ضوء التغييرات الجسيمة فى المجتمع التى جاء بها التطور..”

ويمعن في الاستدراك نافيا عن نفسه بعض ما يمكن أن يتم توجيهه إليه قائلا: كما أن من المهم أن نؤكد أننا لا ندعو إلى هذا استجابة لأراء المستشرقين أو الناقدين للأديان..”

ثم يقرر في لغة واضحة أنه باحث عن الحقيقة مؤمن أشد الإيمان بثوابت الشريعة فيقول: “وإننا قد ننتهى إلى أن حد السرقة – قطع اليد – ليس فحسب عقوبة عادلة، بل واجبة بالنسبة لبعض السرقات كالذين ينهبون البنوك أو يغشون الأقوات أو يستوردون سلعاً تؤدى إلى السرطان أو يطعمون الناس قاذورات المجازر الأوروبية ونفاياتها الخ… كما أننا نحكم دون تردد بالموت على من يمارس الاغتصاب دون نظر إلى أنه محصن أو غير محصن، مما يعد أقسى مما توجبه الشريعة.. وقد يتضح أن ميراث المرأة يحقق العدالة تماماً..”

ثم يقرر باللغة ذاتها دون تردد أو خوف: “لكن هذا لا ينفى أننا سنلمس ضرورة التعديل فى أحكام أخرى…”