“اللهم اهدنا فيمن هديت .. آمين.. وتولنا فيمن توليت.. آمين.. وبارك لنا فيما أعطيت .. آمين.. وقنا واصرف عنا شر ما قضيت.. آمين”

ذلك هو الدعاء الذي تفتحت عليه عيوننا، وتلقفته أسماعنا، وطافت فيه أرواحنا، ونحن صغار نخطو أولى خطواتنا نحو الله جل وعلا..

ومع تطور الأمور رأينا الدعاء قد اقترن بالهموم اليومية، وبالتالي حوى كثيرا من المفردات الجديدة، كالدعاء للقدس، والدعاء للأقليات المسلمة في العالم، والدعاء على الطواغيت، والدعوة لتحكيم الشريعة، كل هذا في بنود دعائية سجعية تُرفَع إلى الله في تجمعات بشرية كبيرة تلهب دموعها قلوب الكثيرين..

ثم تطور الأمر حتى رأينا لـ “آمين” محتوى رساليا أشبه بكونه حالة إثبات وجود، وإعلان هوية، وتبيان موقف، فصار الدعاء في مضمونه نوعًا من الإضراب والاحتجاج، وأصبحت “آمين” لافتة النقد والبوح، والخروج عن قوانين المستبد..

وبالتالي أصبح للمساجد حضور إجتماعي، حيث تحولت آمين إلى (لا)، وتحول المكث في المساجد إلى كفارة عن المكث في سرادقات المبايعة والتأييد، والتهاب الحناجر بالاستغفار تكفيرًا عن خطيئة، وصارت دموع المصلين ونحيبهم في بعض الأوقات تعبيرا عن ندم شديد على تخاذل وكزهم به سجع الدعاء المحترف.

ولهذا فلعل تحليل واقع الدعاء في حياة المسلمين، طبيعته وتطوره ودلالاته.. ومدى فهم الكثيرين لوظيفته الحقيقية، بعيدا عن كونه محاولة لـ “تفريغ شحنة” انفعالية، أقول لعل هذا من أوجب الواجبات نظرا لما احتملته هذه الشعيرة من بدع ليس فقط على مستوى الشكل وإنما على مستوى الفهم كذلك..

وهنا يمكن إثارة مجموعة من الأسئلة لتفتح باب التأمل في حقيقة تلك الشعيرة: فمثلا: كيف يمكن فهم ما يمثله الدعاء لأمة منكسرة.. خاصة أنه ارتبط في جانب منه بحالة من الهزائم المتلاحقة؟

وهل أصبح الدعاء بشكله الحالي مظهرا من مظاهر السلبية، مع أنه معنى التجائي إلى الله، ونُسُك تعبدي، أعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه حين قال: ” الدعاء مخ العبادة..” ؟

لعل إجابة هذين السؤالين على وجه التحديد هي مفتاح فهم حقيقة هذه الشعيرة، التي تغيرت بفعل سوء الفهم الذي حدث لكثير من شعائر الإسلام، فتحولت الصلاة إلى مجرد طقس عاداتي، والصيام إلى عادة اجتماعية، والحج إلى موسم من مواسم السياحة، وهكذا كل الشعائر.. مما أفقدها روحها الحقيقية التي أرادها الإسلام..

المعنى العقائدي

إن الدعاء مضمون ثقة في الله، واستعانة به سبحانه جل وعلا.. تلك هي غايته الأهم.. غاية عقائدية تدفع الداعي إلى ثقة مزدوجة:

الأولى: ثقة في قدرة المدعو.. وهذا هو المعنى الالتجائي الأهم، فلن يطلب الإنسان إلا ممن يعتقد ويوقن في قدرته على تحقيق ما يريد ، وهذا ما ألمحت إليه آيات كثيرةن حتى مع اولئك الذين لا يؤمنون بالله من الأساس، في لحظة معينة تجد الفطر السوية قد اهتدت للثقة فيه وحده سبحانه، يقل تعالى متحدثا عن هؤلاء: ” هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ” (يونس 22)

الثانية: ثقة في الاستجابة.. فربما وثق العبد في أن الوحيد في الكون القادر على تحقيق ما يريد هو الله، ولجأ إليه سبحانه، لكن ثقته في استجابته له يشوبها بعض الريب، وهنا فغن الدعاء يتحول كما أشرنا لمجرد “تفريغ لشحنة” انفعالية، فيصبح بلا هدف، ويفقد أهم معانيه..

ولذا فإن التأكيد على الاستجابة والثقة فيها جاء في أمر قرآني حين قال جل وعلا: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186]، وكأن الله عز وجل يؤكد على الثقة في الاستجابة كما الثقة في القدرة على التحقيق، بحسبان إن الشك في هذه الاستجابة مناقض للثقة في المدعو من الأساس..

يقول الإمام ابن العثيمين رحمه الله : ” إذا توافرت ولم يستجب الله للداعي، فإنما ذلك لحكمة يعلمها الله عز وجل ولا يعلمها هذا الداعي، فعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، وإذا تمت هذه الشروط ولم يستجب الله عز وجل فإنه إما أن يدفع عنه من السوء ما هو أعظم، وإما أن يدخرها له يوم القيامة فيوفيه الأجر أكثر وأكثر، لأن هذا الداعي الذي دعا بتوفر الشروط ولم يستجب له ولم يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، يكون قد فعل الأسباب ومنع الجواب لحكمة فيعطى الأجر مرتين مرة على دعائه ومرة على مصيبته بعدم الإجابة، فيدخر له عند الله عز وجل ما هو أعظم وأكمل. ثم إن المهم أيضاً أن لا يستبطئ الإنسان الإجابة، فإن هذا من أسباب منع الإجابة أيضاً، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يستجاب لأحدكم ما لم يعجل”، قالوا كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: “يقول: دعوت ودعوت ودعوت فلم يستجب لي. [مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين].

آمين وحدها لا تكفي

وتلك اصعب آفات الدعاء الذي يمارسه كثيرون الآن.. إنهم يشعرون وكأن آمين مفتاح سحري سيفتح كل الابواب المغلقة، أبواب الرزق، وأبواب الذرية، وأبواب النجاح، وأبواب البركة، وأبواب النصر على “الأعداء”.. الاعداء الذين يملكون كل أسباب القوة وادواتها!!

إن رفع الحناجر بالتأميم خلف الإمام، وممارسة هذا النوع من التظاهر بالدعاء، أمر مستهجن مالم يتبعه عمل دؤوب لتنزيل محتوى “آمين” إلى أرض الواقع.. وإلا تحولت هذه الـ “آمين” إلى مجرد حالة تنفيس، إلى مجرد حيلة دفاعية مريحة، يمارسها السلبيون الذين لا يحسنون إلا الاستعانة بقوى القدر لتخليصهم مما هم فيه من عنت وتخلف وتراجع حضاري..

إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر ما دعا ربه إلا بعدما اخذ بكل الأسباب.. صف الصفوف، وضع الخطة، اختار المكان، ونزل فيه على ما انتهت إليه الشورى التي طلبها هو من أصحابه، جمع عدته وعتاده وبث روح الجهاد في أصحابه.. ثم بعد ذلك دعا واجتهد في الدعاء واثقا في من يدعوه، وواثقا في استجابته له، حتى إن أبا بكر الصديق رآه مجتهدا في الدعاء وقد رفع يديه حتى نزل برده الشريف من على كتفيه، وكان يدعو ويقول اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا… فكانت النتيجة استجابة مبهرة وثقها القرآن قائلا: ” ذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ” (الأنفال 12)

إن هذا الفهم لطبيعة الدعاء يجعل منه أداة عمران للأرض، فـ “آمين”  ليست أداة سحرية تفعل ما تشاء وحدها دون عمل صالح يرفعها.. وأخذ بالأسباب يجعلها قادرة على تحقيق مضمونها..

إن منطوق الخيرية في “كنتم خير أمة” تم الاشتراط له بكل وضوح حين قال ربنا جل وعلا: “تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” وبالتالي هي رسالة حتى لا تتحول تلك الامة إلى آفة الامم السابقة حين أعلنت بكل كسل وبلادة ومارست التدليس لتبرر قعودها عن العمل قائلة: “نحن أبناء الله وأحباؤه

ولذا فإن بعضا من الأدعية ينبغي أن تختفي من قاموسنا لأنها ادعية تبعث على البلادة والكسل وانتظار المخلص كهؤلاء الذين يطلبون دوما قائلين: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين غانمين”، وكأنهم يطلبون من السماء أن تحارب عن الأرض!!!.

إن الأمة الآن مطالبة أن تتعلم كيف تدعو.. كيف تجعل من الدعاء أيقونة عمل وجد واجتهاد، كي تحصل أسباب التقدم والرقي.. كيف تجعل من الدعاء لحظة فاصلة بين الإحباط والنهوض..