يسعى الطلاب إلى تعلم الاقتصاد بشكل كبير عندما يتجهون إلى الجامعة، ومع تداول الجوانب الاقتصادية في نشرات الأخبار والتأكيد على دور السوق والشركات زادت أهمية دراسته وفتح آفاقا جديدة في سوق العمل.

لأكثر من قرن من الزمان، تكونت سمعة للاقتصاد لأنه “علم” على عكس معظم التخصصات الأخرى في العلوم الإنسانية مثل التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قام بعض الاقتصاديين، من بينهم المهندس الفرنسي (ليون والراس) والذى سعى جاهداً لتحويل الاقتصاد إلى “العلوم الرياضية الفيزيائية” بمبدأ مشابه لما حصل  لـ  “فيزياء نيوتن”.

في وقت لاحق من هذا القرن، قدم (ألفريد مارشال) أستاذ الاقتصاد في جامعة كامبريدج، كتاباً بعنوان مبادئ الاقتصاد وأضاف قليلا من الرياضيات واستخدم رسوما بيانية من بينها تقاطع منحنيات العرض والطلب لتحديد أسعار التوازن.

في النصف الأول من القرن العشرين، دخلت مبادئ مارشال الكليات والجامعات في جميع أنحاء العالم الناطقة باللغة الإنجليزية. ثم جاء كتاب (بول سامويلسون) عام  1948م الاقتصاد: تحليل تمهيدي – في طبعته السادسة عام 1964 م عُدل العنوان إلى الاقتصاد العادل- وحل محل عمل مارشال ليس فقط في العالم الناطق باللغة الإنجليزية ولكن في اليابان وفي كثير من الدول الأوروبية.

وقدم الاقتصاديان الأمريكيان (كينيث أرو) و (جيرالد ديبريو) نموذجا رياضيا صارما لما كان يعرف آنذاك بـ “الاقتصاد التنافسي” عام  1954 م  وأوضحا كيف أن تخصيص الموارد من قبل السوق بظروف تنافسية كان متفوقاً على النظام الاشتراكي الذي حاول تحقيق ذلك من خلال القرارات الإدارية. ( حصل كل منهما في وقت لاحق على جائزة نوبل في الاقتصاد).

ومنذ ذلك الحين عرفت هذه النسخة من الاقتصاد، والمعروفة على نطاق واسع باسم “الاقتصاد الكلاسيكي الجديد” والمختلفة عن “الاقتصاد الكلاسيكي” لـ (آدم سميث) و (ديفيد ريكاردو) ، و”الاقتصاد الماركسي” و “الاقتصاد المؤسسي” التي نشرها بعض الاقتصاديين الأميركيين في وقت مبكر وكانت لها اليد العليا.

تزايد الاستياء لدى الباحثين بسبب انفصال صرامة النظرية وأهميتها طبقا لظروف الواقع، حيث لا يبدو أن الأسواق تعمل وفقاً لمبادئ النظرية الكلاسيكية الجديدة.

وتساءل عدد من الاقتصاديين عن الافتراضات الأساسية لهذه النظرية حيث أن جميع الذين يدخلون في المعاملات التبادلية هم من أصحاب “التعاظمية الاقتصادية” مما سمح للمنتجين بتحقيق أقصى قدر من الأرباح و أقصى حد من “الرضا” بالنسبة للمستهلكين، ويأتي ذلك نتيجة انتماء صانعي القرار للمدرسة “العقلانية” إضافة إلى توفر مناخ حر لتدفق المعلومات لجميع المشاركين في العملية الاقتصادية مع توحيد تكلفة الإنتاج.

ونشأت أسئلة لدى الطلاب المهتمين بـ “الاقتصاد الكلاسيكي الجديد” و كانوا أكثر اهتماماً في أهمية النظرية من صرامتها ورأوا أن الاقتصاد كفرع من فروع المعرفة ضيق وغير مهتم بالعوامل الخارجية.

بدأ طلاب جامعات سيدني وباريس وكامبريدج وغيرها يطالبون بتغيير طريقة تعليم الاقتصاد بشكل جذري. ولم يمضِ وقت كبير حتى تقدم كبار الاقتصاديين من مختلف أنحاء العالم للدفاع عن القضية.

وجاءت الهزة الكبرى عقب انهيار اقتصادي غير متوقع حدث عام 2007 وسرعان ما أصبح ظاهرة عالمية، صاحبتها ظواهر عالمية أخرى مثل: ارتفاع نسب عدم المساواة في الدخول والثروة؛ نمو نسب البطالة؛ الاعتراف باستهلاك الموارد الطبيعية للأرض بسرعة؛ تأثير الاحتباس الحراري وتلوث الهواء على النشاط الاقتصادي وعلى صحة البشر.

وفي ضوء هذه الخلفية، قامت كيت راورث، أستاذة معهد التغيير البيئي بجامعة أكسفورد، بتأليف كتاب يركز على اكتشاف طريقة تدفع بالفكر الاقتصادي لمواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية للقرن الواحد والعشرين، وقدمت رواث مقترحاتها لإعادة صياغة الاقتصاد في المستقبل وجمعت بين التاريخ والنظرية والقصص والرسوم البيانية، بطريقة مبسطة وسهلة المتابعة.

ترى (كيت راورث) إذا كان هناك عدم تطابق بين المشاكل التي يتعين حلها وفشل النظرية في التعامل معها،  فيجب إدراك أن الاقتصاد لا يتناول فقط بعض القضايا المحددة بل هو جزء من محاولة فهم مشاكل المجتمع المعقدة والمساهمة في حلها.

وعلى هذا الأساس، ابتكرت روارث فكرة الحدود الداخلية أو ما اسمته ” Economic doughnut اقتصاد الدونات”  أو “الأسس الاجتماعية للاقتصاد” واعتبرت الحدود الخارجية بمثابة السقف البيئي لضغط كوكب الأرض ولا ينبغي تجاوزه.

وبصيغة أخرى، يجب أن يرتكز الاقتصاد كفرع معرفي على محورين:

– كيفية ضمان ظروف معيشية مقبولة لجميع البشر

– عدم تجاوز الحد الأعلى للسقف البيئي.

7 طرق

وإذا دققنا هذه الأفكار سنجد أنها تتنافى مع الانضباط العلمي للاقتصاد، وخاصة في نسختها الكلاسيكية الجديدة وتتنافر مع سياسة استجابة جميع القرارات الاقتصادية لإشارات السوق.

وعلى مستوى مختلف، فإن هدف السياسة الوحيدة التي تتوافق مع النهج العلمي “المحايد” في الاقتصاد هو متابعة نمو الدخل، بينما على الصعيد الوطني يدل على تعظيم قيمة الناتج الإجمالي الذي يمثله الناتج المحلي الإجمالي بافتراض أنه عندما يزيد الناتج سيكون الجميع أفضل حالاً، وربما على نحو غير متكافئ .

وأوصت الكاتبة روارث بوجوب تغيير الأهداف، واقترحت هدفا جديدا هو “تلبية حقوق الانسان لكل شخص ضمن وسائل تشجع وتحفز للحياة على الأرض”.

وتجدر الإشارة إلى أنه سواءً وافق الاقتصاديون على هذا الاقتراح أم لا، هناك قبول عام لهذا الهدف على الصعيد العالمي وعن طريق جهود الأمم المتحدة. وحتى يتم تحقيقه، من الضروري التفكير في الاقتصاد باعتباره جزءا لا يتجزأ من المجتمع وهذا يدعونا أيضاً لفهم مختلف للطبيعة البشرية.

إن صناع القرار في الاقتصاد الكلاسيكي يسعون الى زيادة أرباحهم في معاملات السوق بشكل انتهازي ولحساباتهم الذاتية.

وهناك فهم مختلف وأكثر واقعية للطبيعة البشرية على أنهم اجتماعيين، مترابطين، على استعداد للمشاركة والتعلم من خلال التجربة واكتساب الخبرة وهذا أمر ضروري لبناء اقتصاد جديد يلبي احتياجات السكان ويرفع مستويات المعيشة، ويزيد من نسب الإنتاج؛ ولكن في نفس الوقت لا يقدس النمو الإقتصادي – وهذا لا يعني عدم الاكتراث به أو رفض قياسه – بل يساهم  في تعزيز رفاهية الإنسان إذا ما كان الناتج المحلي الإجمالي فى حالة  “صعود أو هبوط أو ثبات” وهذا بطبيعة الحال يصعب تطبيقه على أرض الواقع.

وأدركت كيت روارث أن المشكلة الأساسية ليست في اعتبار الاقتصاد فرعا من فروع المعرفة، وإنما وضعه في قالب النظام الرأسمالي مع الاقتصاد الكلاسيكي الجديد بكونه سفيرا لعلامته التجارية.

وفي حين أن بعض المطالبين، بما في ذلك بعض الاقتصاديين المعروفين، يزعمون أنه فى ظل النظام الرأسمالي فإن السيطرة تكون لدى المستهلك، إلا أن الواقع هو أن السوق محكوم بدرجة كبيرة من قبل أولئك الذين تعتمد أرباحهم على إقناع الجميع بمزيد من عمليات الشراء.

والحقيقة أن ما يحتاجه أي سوق هو عدد كبير من المتعاملين يقومون بعمليات بيع وشراء لكن واقعيا من يسيطر على السوق هم أولئك الذين لديهم قدرة مالية على الشراء.

في المرحلة الحالية يسيطر التمويل على الرأسمالية مما جعل السوق أكثر قوة، لأن المعاملات أصبحت المصدر الرئيس للدخل وتحقيق الثروة بدلاً من الإنتاج، وخاصة لأولئك الأثرياء.

وبذلك اختلفت روح هذه المرحلة عن ما كانت عليه في المراحل الأولى من الرأسمالية حيث كان أصحاب رؤوس الأموال يهتمون بتراكم الثروة ولكنهم يستخدمونها لزيادة الإنتاج وبالتالي يضمنون نمو السلع.

وعلى النقيض من ذلك، نحن الآن في مرحلة يراد منها النمو  وتحقيق مزيد من الأصول المالية بدلاً من السلع،رافق ذلك إهمال للاحتياجات الأساسية خاصة للطبقات الفقيرة والمحرومة، وزيادة في الإنتاج دون توفير حماية كافية للموارد الطبيعية والبيئة مما يبعث بإشارات غير واعدة للمستقبل.

إن هدف الكتاب هو التحذير من الأزمة الكبيرة التي تنتظر الإنسانية إذا لم تتغير جذور السياسات الاقتصادية الحالية والمستندة على تفسيرات خاطئة للعمليات الاقتصادية، وهي تقدم خارطة طريق جديدة للمستقبل تستحق الاهتمام، وتحديداً في مجال التفكير والعمل الاقتصادي  .