“إننا أخطأنا خطئًا كبيرا بخذلاننا الحسين بن علي، خطئًا ليس منه توبة ولا مخرج إلا القصاص من قتلته، أو قتلهم إيانا كما قتلوه”

على هذا الهدف اجتمعت مجموعة بقيادة سليمان بن صرد، بعد أن رأوا أنهم خذلوا الحسين بن علي فلم ينصفوه، وتركوه في معركته مع الدولة الأموية دون أن ينصروه، فلقي ربه قتيلا شهيدًا.

رأت هذه المجموعة أن هذا الخذلان ذنب لا يمسحه إلا القصاص من قتلته، أو الصمود أمام الدولة الأموية ليلقوا نفس مصير الحسين بن علي رضي الله عنه توبة إلى الله من هذا الإثم، ولذلك أطلق عليهم اسم ( التوابين)

وهذه بعض العبارات التي سجلها التاريخ لهم : “وَاللَّهِ مَا أظن الحسين يكون راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا”[1]

“كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» ، فما فعل القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حَتَّى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل”

“لا وَاللَّهِ، لا عذر دون أن تَقتُلوا قاتلَه والموالين عَلَيْهِ، أو تُقتَلوا فِي طلب ذَلِكَ”[2]

والعجيب أن هذا النوع من الوفاء، الذي حصر التوبة في القصاص أو الموت ، قد يُفهم في أوقات الانكسار النفسي، والضعف المادي، الذي لا يجد في الأفق سوى الموت في صمت إلا من صوت صليل السيوف. وهو الوقت الذي برزت فيه هذه الفكرة، حيث كان الأمويون قد بدأوا يحكمون سيطرتهم على العراق.

قد يبدو الأمر مفهومًا حتى هذه اللحظة، ولكن العجيب، أن الأمور تحولت لغير صالح الدولة الأموية، وأحكم عبد الله بن الزبير قبضته على العراق، وهو الرجل الذي يشارك هذه المجموعة العداوة للأمويين، كما أنه الأقرب لأنصار الحسين.

لكن مجموعة التوابين لم تجد في ذلك فرصة سانحة لتنظيم صفوفها مع صفوف ابن الزبير حتى تثأر للحسين من الدولة الأموية، وتستبعد خيار الموت كل ما وجدته إزاء هذه التغيرات السياسية، أن الفرصة أصبحت سانحة لتجنيد عدد أكبر لنفس الفكرة والهدف.

والأكثر من ذلك أن عبد الله بن يزيد عامل عبد الله بن الزبير على الكوفة، تقدم بهذا العرض لهم، حيث عرض عليهم أن يمدهم بقوة عسكرية من عنده، لكنهم رفضوا هذا العرض، كما رفضوا الانضمام إلى صفوف عبد الله بن الزبير.

بداية الرحلة العسكرية

وبدأت رحلة التوابين العسكرية عام 65هـ، وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء حيث بلغوا قبر الحسين فأقاموا عليه يوما وليلة يترحمون عليه ويبكون ويجددون التوبة من خذلانهم إياه.

ثم كان قرار السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام.

وسار جيش التوابين إلى أن وصل إلى قرقيسياء، وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ببيعة ابن الزبير.

واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة أنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين، واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، وكان مما قاله لهم : ” فانظروا مَا أشير بِهِ عَلَيْكُمْ فاقبلوه، وخذوا بِهِ، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل اللَّه عَلَيْهِم الدائرة، وأنا لكم واد، أحب أن يحوطكم اللَّه بالعافية”

ثُمَّ قَالَ زفر: “فهل لكم فِي أمر أعرضه عَلَيْكُمْ، لعل اللَّه أن يجعل لنا ولكم فِيهِ خيرا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدا وأيدينا واحدة، وإن شئتم نزلتم عَلَى باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إِلَى جانبكم، فإذا جاءنا هَذَا العدو قاتلناهم جميعا فَقَالَ سُلَيْمَان لزفر: قَدْ أرادنا أهل مصرنا عَلَى مثل مَا أردتنا عَلَيْهِ، وذكروا مثل الَّذِي ذكرت، وكتبوا إلينا بِهِ بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذَلِكَ، فلسنا فاعلين.”[3]

وهكذا يرفض القوم أي معونة عسكرية ممن ليسوا على نفس أفكارهم، كما يرفضون تغيير خطتهم الانتقامية مهما تبدلت الأحداث السياسية، فهم ماضون على فكرتهم، مصرون على هدفهم.

ومضوا إلى مسيرهم ومصيرهم ،والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65هـ. وكان عدد التوابين أربعة آلاف فرد، وعدد الجيش الأموي عشرين ألفا.

مطالب التوابين من الجيش الأموي

وإن تعجب فاعجب من مطالب جيش التوابين حينما التقى الجيشان، واستمع إلى أحد التوابين وهو يتحدث عن ذلك بنفسه يقول : ” لما دنوا دعونا إِلَى الجماعة عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان وإلى الدخول فِي طاعته، ودعوناهم إِلَى أن يدفعوا إلينا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزُّبَيْر، ثُمَّ نرد هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا الَّذِينَ آتانا اللَّه من قبلهم بالنعمة والكرامة، فأبى القوم وأبينا.”[4]

وخاض الجيشان معركة ضارية غير متكافئة, أسفرت عن تدمير التوابين ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة .

نظرات في نتائج المعركة

يبدو أن مجموعة التوابين كانوا راضين عن النتيجة التي آلت إليها المعركة، فالقتل في نظرهم شهادة نبيلة، حتى لو لم يحقق الموت لهم أية أهداف أخرى، وبخاصة أنهم كانوا يعُدُّون ذلك توبة من تقصيرهم في حق الحسين.

ولذلك كانوا يحثون أنفسهم في أثناء المعركة بمثل قولهم : ” أبشروا عباد اللَّه بكرامة اللَّه ورضوانه، فحق وَاللَّهِ لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدُّنْيَا وأذاها إلا فراق هَذِهِ النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيا، وبلقاء ربه مسرورا”[5].

كما قال لَهُمْ عَبْد اللَّهِ بن نفيل لمّا بدت مخايل الهزيمة في أعينهم: “إنا لهذا خرجنا”[6]

رأي الخبراء

ويبدو أن هذا أيضا رأي بعض الدعاة والمشايخ، جاء في كتاب الدولة الأموية: “والحق أن الإنسان يقف مبهورًا أمام شجاعة التوابين وجرأتهم، فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل, وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق, وعقيدة راسخة, وشجاعة نادرة، وصبر فائق, مع عشرين ألف جندي -على أقل تقدير- من أهل الشام, وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء, ولولا كثرة جيش الشام، حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقًا، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنبل، لما استطاعوا الانتصار عليهم “[7]

لكن يبدو أن الخبراء والسياسيين يرون الأمر بشكل مختلف، فهذا  المختار الثقفي، وبغض النظر عن سوء نواياه، كان يقول عن سليمان بن صرد : “أتدرون مَا يريد هَذَا؟ إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس لَهُ بصر بالحروب، وَلا لَهُ علم بِهَا.[8]

ويقول الخبير الدكتور محمد سهيل طقوش: ” كانت حركة التوابين من الحركات الطائشة التي دفع بها الحماس إلى عدم التبصر، ولم يكن لها من نتائج سوى المزيد من إراقة الدماء” [9].

رأي علماء الإسلام

ويتفق علماء الإسلام هنا مع رأي خبراء العسكرية لا مع المشايخ، فيقول العز بن عبد السلام:

سئل – عليه  الصلاة والسلام – أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله، قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم أي؟ قال: “حج مبرور” .

جعل الإيمان أفضل الأعمال لجلبه لأحسن المصالح، ودرئه لأقبح المفاسد، مع شرفه في نفسه وشرف متعلقه، ومصالحه ضربان: أحدهما عاجلة وهي إجراء أحكام الإسلام، وصيانة النفوس والأموال والحرم والأطفال.

والثاني: آجلة وهو خلود الجنان ورضاء الرحمن. وجعل الجهاد تلو الإيمان، لأنه ليس بشريف في نفسه، وإنما وجب وجوب الوسائل -.[10]

ويبين أن الجهاد، ومن ثم الشهادة ليسا أهدافا شريفة دائمة، ولكنهما وسيلتان يشرفان بشرف الغاية، ويقبحان بقبح الغاية، فيقول :

” التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة، لكنه واجب إذا علم أنه يقتل من غير نكاية في الكفار، لأن التغرير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت ههنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.”[11]

ولذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصحابته من مكة إلى المدينة إنقاذا لأنفسهم من القتل على أيدي مشركي مكة، مع أن القتل شهادة ، لكن الإسلام في هذه الفترة من تاريخ الدعوة، كان يتطلب أن يعيش له وأن يحيا من أجله كل فرد من أبنائه ، فضلا عن الرجل الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم.

كان الإسلام يفرض عليهم أن يعيشوا من أجله حتى يكونوا له على ظهر الأرض أمة راسخة البناء، ودولة سامقة اللواء.

فإذا استقامت للدين الجديد أمته ودولته، سفكت لحياطتها الدماء، وقدم للدفاع عنها الفداء!!

لقد كانت حياة كل مسلم قذى في عين الكفر والكافرين، فضلا عن حياة المسلم الأول صلى الله عليه وسلم .

 


[1] – تاريخ الطبري (5/ 554)

[2] – تاريخ الطبري (5/ 553)

[3] – تاريخ الطبري (5/ 594)

[4] – تاريخ الطبري (5/ 598)

[5] – تاريخ الطبري (5/ 601)

[6] – تاريخ الطبري (5/ 601)

[7] – الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (1/ 589)

[8] – تاريخ الطبري (5/ 561)

[9] – تاريخ الدولة الأموية، طقوش، ص72

[10] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 54)

[11] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 112)