عرفت العرب نظام الشُّورى قبل الإسلام حيث تتكشَّف لنا – من خلال معرفتنا بإدارة شؤون القبيلة في الجاهلية – صورة واضحة عن مجلس القبيلة الذي تتجلَّى فيه بحسب البعض أعظم صور الشُّورى والحرية الفردية التي سادت النظام القبليَّ قبل الإسلام. ويُسْتَخْلَصُ من التَّقاليد العربية العريقة في الجاهلية أنَّ العرب كانوا ينـزعون إلى العمل بالشُّورى في الحكم وإدارة شؤون القبائل؛ الأمر الذي تؤكِّده المعطيات التَّاريخية المتوفِّرة لدينا، حيث كان هناك مجالسَ للشُّورى في الدُّول اليمانية الجنوبية، وفي القبائل العَدْنانية الشَّمالية، كما كانت مجالس القبائل المتحضِّرة المستقرَّة أكثرَ تنظيما من مجالس القبائل البدوية الرَّاحلة. وفي الأحوال كلها؛ فإنَّ القرار النهائيَّ في جميع هذه المجالس لم يكن لشيخ القبيلة منفردًا؛ بل كان لأصحاب النُّفوذ، أو لسادة الأسر ورؤساء العشائر بالدرجة الأولى.

ولعلَّ من أبرز مظاهر وحْدة القبيلة، وتجلِّيات سيادة الشُّورى فيها؛ وجود رئيس يتولَّى أمورها والنَّظر في شؤونها يتمُّ اختياره عن طريق الانتخاب الحرِّ المباشر بين أفراد القبيلة. وفي هذا السِّياق، ينقل الآلوسي في كتابه : “بلوغ الأرب” عن الجاحظ قوله: “كان أهلُ الجاهلية لا يسوِّدون إلَّا مَنْ تكاملتْ فيه سِتُّ خصالٍ: السَّخاءُ، والنَّجْدَةُ، والصَّبرُ، والحِلْمُ، والتَّواضع، والبيان”.

أمَّا فيما يتعلَّق بحدود سلطة الرئيس في القبيلة، فيمكن القول إنها كانت محدودة للغاية؛ إذ أنَّ السُّلطة الفعلية كانت بيد مجلس القبيلة ككل، وليست للرئيس فحسب. وبالإضافة إلى ذلك؛ كانت الرئاسة أمرًا شرَفيًّا فخريا؛ بحيث لا يتقاضى عنه صاحب المنصب أجرًا نظير القيام بمهامه، كما كان يتعيَّن عليه أن يستشير أعضاء المجلس في كلِّ حادثة تقريبا. ووفقًا لذلك، يعدُّ مجلس القبيلة بمثابة “دار النَّدْوة” التي كان بمقدور أيِّ عضو في القبيلة أن يحضُر مجلسها، ويتحدَّث فيها، ويتناقش مع باقي الأعضاء في مختلف شؤون القبيلة الدَّاخلية والخارجية على حدٍ سواء، فضلا عن حقِّه في إبداء المشورة، والعمل على تحقيق مصلحة القبيلة؛ تطبيقا للقاعدة الشَّهيرة : “الفردُ في سبيل القبيلة، والقبيلة في سبيل الفرد”. ونظرا لتساو جميع أفراد القبيلة في الحقوق والواجبات؛ فإنه كان يحِقُّ لكلِّ واحد منهم مخاطبة سيد القبيلة مخاطبة النَّدِّ للنَّدِّ، بل ومحاسبته على أدنى تقصير في حقِّه، أو يقع من جانيه.

وبما أنَّ مجلس القبيلة لم يكن ذا سلطة “تنفيذية” مباشرة؛ فقد ترتَّب على ذلك وجوبُ أن تكون جميعُ قراراته بالإجماع؛ وإن كان ذلك أدْعى لغلبة “الأكثرية” التي عادة ما تَسْتخدِمُ عواملَ الضَّغط الاجتماعيِّ لفرض سيطرتها على “الأقلية”. وفي حال تمَّ ذلك، لا يكون بمقدور المعارِض لقراراتها سوى الخضوع والإذعان لسُلطة القبيلة. ومن ثمَّ، يرضخ أفراد القبيلة من الأقلية المعارضة لرأي الأكثرية – حتَّى وإن كان خاطئا -؛ وهو ما عبَّر عنه أجمل تعبير دُرَيْدُ بن الصِّمَّة حين قال :

ومَا أنا إلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ     غَوَيْتُ وإنْ تَرْشَدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

وفي السياق ذاته، كانت “دار النَّدوة” – التي بناها قُصيُّ ابن كلاب، وانتقلت من بعده إلى ولده حتَّى اشتراها معاويةُ بن أبي سفيان وجعَلَها دارا للإِمارة – بمثابة مجلس الشُّورى، إذ سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ قريشا كانوا يَنْتَدُونَ فيها؛ أي يجتمعون للخير والشَّرِّ. والنَّدِيُّ في اللغة : هو مَجْمَعُ القوم إذا اجتمعوا لإبرام أمرهم وتشاوُرِهم، ففيها كان أمرُ قريش كلّه، وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم.

وبحسب الأزرقي المتوفَّى سنة 250هـ في كتابه “أخبار مكَّة وما جاء فيها من الآثار”؛ فإنَّ من أهم الأمور التي كانت تُناقش في دار الندوة كلا من: المشورة في أمور السِّلم والحرب، والإعلان عن بلوغ الفتاة والشَّاب سنَّ الزَّواج، وبلوغ سن المواطنة بالنسبة للرِّجال، كما كانت تُنظَّم بها أمورُ القوافل، وتُبْرَمُ بها الاتفاقيات التُّجارية مع مختلف القبائل، إلى غير ذلك من الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدِّينية.

على أنه لم يكن يدخلها من قريش – من غير ولد قُصَي- إلا ابن أربعين سنة للمشورة، فيما كان يدخلها ولدُ قُصَي كلّهم أجمعون وحلفاؤهم. على أنَّ ثمة استثناءات عديدة قد وقعت في هذا السِّياق؛ من أشهرها: دخول حكيم بن خزام دار النَّدوة للمشورة وعمرُه خمس عشرة سنة. وكذلك دخلها أبو جهل “لجودة رأيه” ولمّا يتجاوز الثلاثين عاما. ويُورد ابن هشام مُعظمَ أسماء من حضرها للنظر في أمر دعوة الرَّسول . كما يورد محمَّد بن حبيب البغدادي المتوفَّى سنة 245هـ في كتاب “المنمَّق في أخبار قريش” قائمة برئاسات قريش من أهل الوجاهة والشُّورى.

ومن خلال استعراض توزيع المناصب والوظائف التي تتعلق بإدارة مكَّة قبل الإسلام، نلاحظ أنَّ إدارتها كانت “شورية” وليست “جمهورية”، كما ذهب إلى ذلك لامانس في كتابه : “محمَّد في مكة”. وفي الأحوال كلِّها؛ تؤكد الوثائق التاريخية أن مكَّة كان بها – إلى جانب دار النَّدوة – أنديةٌ أخرى خاصَّة بكلِّ عشيرة على حِدَة؛ وهو ما يُمكن فهمه من سياق الآيتين الكريمتين : (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).[العَلَق: 17- 18]