ما زال علماء الأمة ومفكروها مشغولين بالبحث في جذور أزمتنا، ومظاهرها، وفي كيفية تفكيكها، ومعالجة الخلل المتراكم الذي نعانيه..
وللشيخ المجدد محمد رشيد رضا (1865- 1935م) مقالان نشرهما بمجلة “المنار”([1])، تعرض فيهما لبعض أسباب ومظاهر الأزمة- أو بتعبيره: الحيرة والغمة- في حياة الأمة؛ خاصة في هذا الطور من أطوارها، والذي سمّاها “طور الطُّفوليَّة”.
وفي البداية أشير إلى أن وصف حال الأمة في مرحلةٍ ما بـ”الطفولية”، قد استوقفني، ووجدت له نظيرًا في كتابات الشيخ محمد الغزالي (1917- 1996م)، الذي يعد امتدادًا لمدرسة رشيد رضا في الدعوة والفقه والفكر، وأحد أعلامها المُبَرَّزِين.
ففي موضعٍ من كتاباته يحذِّر الغزالي من أن: “الطفولة العقلية السائدة بين متحدثين إسلاميين يُخشَى منها على أمتنا؛ بل يجب أن نعلم أنه لا مستقبل لنا ما بقى هذا الاسترخاء الفكري والخُلُقي يصبغ شؤوننا”([2]).
وفي موضع آخر يتأسف الشيخ من “أن الكلام عن تكوين الدولة عندنا تعرّض له أقوام على حظ كبير من الطفولة العقلية، أو على حظ من الزلفى يكسبون به الدنيا ويفقدون به الإيمان”. مؤكِّدًا أن “إصلاح أداة الحكم وأصله الأول، يحتاج إلى فقهاء أتقياء أذكياء”([3]).
وهذا يكشف لنا عن التلاقي والحوار بين الأجيال المتتابعة من الدعاة والمفكرين، واستفادة اللاحق منها من السابق؛ إضافة إلى أنه ينبهنا إلى ضرورة مراكمة الجهود، وانبناء بعضها على بعض في حلقات متكاملة.
وإذا عدنا إلى الشيخ رشيد رضا، وجدناه يوضح أن الأمة تمر بمراحل وأطوار تشبه ما يمر به الإنسان؛ وهذه المراحل بصفة عامة ثلاثة: مرحلة الطفولة، ومرحلة الرجولة، ومرحلة وسطى بينهما.
في مرحلة الطفولة، “لا همّ للطفل في أول عهده بالوجود إلا إرضاء شهوة البطن، يساق إليه الغذاء فيُلهَم تناوله إلهامًا، ثم يعطَى التمييز بالحواس الظاهرة ثم بالحواس الباطنة، يكون فيه أولاً ضعيفًا ثم يقوى بالاستعمال تدريجًا”.
وكذا الأمة في طور الطفولة، كما يبين صاحب المنار، فهي “لا تميز بين النافع والضار، ولكنها تميل إلى جانب الراحة واللذة؛ فتسمع لمن لا يُخطِّئها في اعتقاد ولا رأي، ولا يَذم لها خلقًا ولا عادة، ولا يحملها على ترك لذة أو احتمال مشقة في عمل نافع إلا أن يكون ذلك من الضروريات التي لا تخفى على الأطفال”.
ثم تأتي مرحلة وسطى قبل الانتقال لمرحلة الرجولة؛ وفي هذه الوسطى يتم تمييز الطفل للبديهيات، و”ينتقل إلى مبدأ طور الفكر والتعقل وإدراك المصالح والمنافع في الجملة.. ولكن الولدان يكونون فيه أقرب إلى ماضيهم من مستقبلهم؛ فيؤثرون ما يرتاحون إليه ويلتذون به على ما فيه كلفة ومشقة، وإن كانت المصلحة وحسن العاقبة في هذا دون ما قبله، وينظرون إلى أنفسهم وحدها دون مَن يعيشون معهم”.
ومن هنا، كما ينبه رشيد رضا، تشتد الحاجة في هذه المرحلة الوسطى إلى “الهادين والمرشدين؛ الذين يثقفونهم ويربونهم مستعينين عليهم بهدي الدين وحوادث الكون والوجود؛ وإلا انتقلوا إلى طور الرجولية بحيوانيتهم دون إنسانيتهم، وبأجسامهم دون أرواحهم وأحلامهم”.
ويتأسف الشيخ من أن العدد العظيم للأمة (حدده في وقته بثلاثمائة ألف ألف) قد أمسى بحالة من الضعف الصوري والمعنوي، والفقر المادي والأدبي، ما يستحي من ينتسب إليه من وصفها وشرحها , و”قصارى ما نقول فيه : إنه لا يسمَّى أمة إلا بضرب من التجوُّز، كما تسمى صورة الأسد المرسومة في الجدار أسدًا”.. بخلاف عهدهم السابق من العزة والمنعة.. ومع ذلك، فيعتقد الذين لا يقنطون من رحمة الله ولا ييأسون من روحه أنه لابد أن ينجز لهذا الدين وعده {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} (التوبة: 33).
إذن، تمر الأمة بمراحل ثلاثة: طفولة ثم رجولة، وبينهما مرحلة تشتد فيها حاجتها إلى المربين والموجهين؛ وإلا انتقلت الأمة إلى مرحلة الرجولة بخصائص وسمات مرحلة الطفولة! وهي خصائص وسمات لا تبني مجدًا، ولا تقيم أمة، ولا تنشئ مكانة؛ إنما يكون أصحابها في عالة من أمرهم على غيرهم، وفي هوان أمام أعدائهم، ويكونون “أمة” على وجه من التجوّز والتساهل، لا على وجه الحقيقة والكينونة الفاعلة.
الانصراف للحظوظ الشخصية:
ويدلل الشيخ رشيد رضا على رأيه فيما اكتنف الأمة من زلل، وما أصابها من عطب، بعدة أسئلة يراها كاشفة للحال المرير، فيقول: أليس السواد الأعظم مِنَّا لا يهمهم إلا لذّاتهم وحظوظهم الشخصية، كما هو شأن الأطفال؟! هل يفقهون معنى الأمة ويعلمون ما هي المقومات التي تقوم بها، والروابط التي تجمعها، والأمر الذي تؤمه وتقصده؟ هل يتفكرون في الحياة الاجتماعية وما يعرض عليها؟
ويجيب موضحًا أن أكثرهم لا يتجاوز فكره محيط شخصه، ولا يعدو بيته وولده؛ وإذا ذكرهم مذكر ونبههم منبه يحارون، وتضطرب أفكارهم، ولا يكادون يفهمون الحقيقة!
ويشير صاحب المنار إلى أن هذا السواد الأعظم:
– منهم مَن لا يفكر في معنى الأمة قط.
-ومنهم مَن يرى البعيد قريبًا، كالطفل الذي يمد يده لتناول القمر؛ كما جرى ويجري لبعض الحكام وأصحاب السلطة, كإسماعيل باشا وأصحاب الفتنة العرابية (أي يستعجل التغيير ويستسهله، دون إدراك لسننه وقوانينه).
– ومنهم من يرى نفسه عاجزًا عن كل شيء، ويرى الحاكم قادرًا على كل شيء؛ كما هو شأن الطفل الذي يطلب القمر أو الطير في الهواء من أمه أو أبيه.
– ومنهم من يفتكر في المصالح والمنافع التي تخص الأمة، ويعذل المقصرين وهو منهم ولكنه يغضّ الطرف عن عيوبه، وينظر إلى عيوب الناس بالنظارة المعظِّمة؛ وإذا عمل فإنما يعمل لشخصه، وإذا وقعت مصلحة الأمة في طريقه داسها ومضى في سبيله؛ كما هو شأن الولدان في أول طور الفكر والتعقل.
– ومنهم الذين دعوا إلى الاجتماع لأجل العمل فاجتمعوا، فصاح بهم صائح الفتنة فتفرقوا “كَنَبْأَةٍ أَجْفَلَتْ غُفْلاً مِنَ الْغَنَمِ” [أي كقطيع لاهٍ من الغنم تهزه الصيحةُ، فتفزعه]، أو كالصبيان يجتمعون للعب فينعق بهم ناعق فيتفرقون “أيدي سبا”؛ لأنهم لم يتربوا على الاجتماع، ولا يقدرون الأعمال الاجتماعية قدرها، وليس عندهم شيء من أخلاق الرجال، كالصبر والثبات والاحتمال.
وهكذا فإن الغفلةَ عن حقيقة الرسالة المنوطة بالأمة، بل عن حقيقة معنى الأمة ذاتها؛ والتخبطَ من مريدي الإصلاح نتيجة عدم وعيهم الكافي بطبيعة العقبات والواجبات، وعدم فهم سن الاجتماع والتغيير.. كل ذلك- بحسب رؤية الشيخ رشيد رضا- جعل الأمة متخبطةً في مرحلة الطفولية، متعثرةً في خطواتها نحو مرحلة الرجولية واستعادة سابق عهدها من العزة والفخار والنهوض.
وفي المقال القادم، نتعرف تفصيلاً على الأسباب التي أوقعت الأمة في الحيرة والغمة، وجعلتها لا تبرح مرحلة الطفولية..!
([1]) المقالان هما: “طفولية الأمّة وما فيها من الحيرة والغمة”، و”الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة”. وهما منشوران بالترتيب في العدد (47) بتاريخ 10 فبراير 1900، والعدد (48) 17 فبراير. وأعيد نشرهما في المجلد الثاني من المجموعة الكاملة لـ”المنار”.
([2]) “الطريق من هنا”، الغزالي، ص: 14، طبعة دار الشروق.
([3]) “الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية.. أزمة الشورى”، الغزالي، ص: 9، طبعة نهضة مصر.