لم تخل مرحلة في التاريخ الإنساني من مذابح جماعية، بحار من الدماء غاصت فيها الضمائر، تساوى في ارتكابها الأمم “المتحضرة” وكذلك البرابرة، ومتاحف المناجم البشرية في كمبوديا ورواندا شاهدة على تلك الفظائع، لكن هناك إبادات صامتة لا يشعر التاريخ بوقعها، ولا يحصي ضحاياها، ولا يبكي على قتلاها، لذا لم يكتبها في صفحاته، تلك هي “الإبادات الثقافية” التي يمحو فيها شعب متفوق ثقافة مجموعة أخرى، والتي توصف بأنها “المحرقة الأخيرة للوجود” حيث تكسر العمود الفقري لأي جماعة عرقية وتحول دون حضورها مرة أخرى ليسلمها الواقع إلى الفناء والنسيان، فتُنسى اللغة والثقافة والأزياء والتراث ومميزات الشخصية.

وفي كتاب “الإبادة الثقافية” للأكاديمي الأمريكي “لورنس دفيدسون” أستاذ التاريخ في جامعة بنسلفانيا ، والصادر في طبعته العربية الأولى عام (2017)، في (170 ) صفحة؛ حديث مستفيض عن تلك الإبادة الثقافية، والتي لم تخضع لتجريم في القانون الدولي، لذا تمارس بلا نقد أو اعتراض، حيث يعمد مجتمع ما إلى إضعاف وتدمير القيم والممارسات العائدة لمجموعة لا تنتمي إليه.

آليات الإذعان

كان السابقون يعاملون المجموعات المختلفة عنهم باحتقار وربما بعدوان، فالبعض يتملكه رهاب تجاه الآخرين يتناسب مع مقدار جهله بذلك الآخر، لذا فتوافر المعلومات الدقيقة عن نمط الجيران ونياتهم يعد أحد دعائم تحقيق السلام بين المجموعات، لكن مع توافر الجهل بالآخرين تنمو المشاعر السلبية، وتصبح تلك المشاعر قابلة للاستغلال من  قبل وسائل الإعلام والسياسيين والسلطات بل ورجال الدين.

ويرى الكاتب أن ذلك الجهل يرجع إلى النزعة المحلية، فالظاهرة المحلية ليست ظاهرة تمر بالأفراد وتمضي، ولكنها توجه جماعي خاصة مع تقدم وسائل الاتصال، وهو ما يمكن أن يعزز مشاعر الجهل بالآخرين، والقاعدة تقول: أن الأخبار والحقيقة ليست شيئا واحدا، فالأخبار تصفي من خلال عقول كثيرة في الإعلام والسياسة والأجهزة الأمنية قبل أن تصل إلى أذن المواطن، وهو ما يجعلها تتلون وتصطبغ برؤية هؤلاء جميعا ومصالحهم بل بالصورة النمطية لهم ، ومن ثم يصبح الخبر متحيزا.

ويحدث في وسائل الإعلام أن تُستغل العواطف الثابتة التي تم توارثها عبر الأجيال المختلفة، فالعواطف تقود الأفكار في كثير من الأحيان بطريقة لا إرادية، وتجربة الإنسان تؤكد أن معظم الناس يكونون آرائهم بما يتوافق مع من حولهم، ويرغب الكثير من الناس بالتوافق مع المجتمع ومشاركتهم في وجهة النظر التي تعد إحدى مظاهر الالتزام بالجماعة، وعلى هذا يمكن للسلطة أن تحرك الجماهير بناء على قناعات مغروسة سابقا والتي لا تكون خاضعة للتحليل.

وتؤكد الدراسات أن الشباب في المجتمع هم الأكثر عرضة لخطر الحماقة الثقافية، لأنها تلك الفئة التي يجري تلقينها العادات المألوفة، كذلك في أوقات الأزمات يجد غالبية الناس أنه من المستحيل عليهم التفكير بصورة مستقلة عن المواضيع التي يختزنون معرفة ما عنها، وفي عالم السياسة نجد أن الزعماء السياسيين ليسوا أكثر تحررا من الجماهير في الصورة النمطية حول العالم والآخرين على الرغم مما لديهم من مصادر متنوعة للمعلومات، وهو ما يجعل مواقفهم تعبيرا وتأكيدا لوجهات نظر مسبقة، وبالتالي يسقط صانع القرار كل ما هو غير مرغوب فيه من معلومات ووجهات نظر لا تتفق مع أفكاره وافتراضاته المسبقة، فمنذ نهاية الحرب العالمية شهد العالم ما يقرب من (104) حربا، لعب الإعلام دورا ليس في شيطنة العدو، ولكن في شيطنة الثقافة والحضارة التي ينتمي إليها العدو.

الإبادة طريقة تفكير

كان الأوروبيون ينفذون الإبادة الجماعية ضد الشعوب المستعمرة من غير الأوروبيين ضمن معتقدات استعمارية مشوهة، لكنهم أحسوا بالصدمة في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما نفذت النازية الإبادة الجسدية في القارة الأوروبية تحت دعوى تفوق الجنس الآري، حيث نقلت النازية نفس الأسلوب الاستعماري مع الشعوب المُحتلة ونفذته ضد الجنس الأبيض، ورأت النازية أن أوروبا مأهولة بشعوب متخلفة يجب التخلص منها أو استعبادها، وهو ما سبب صدمة للأوروبيين خاصة مع رفع النازية شعارات أنها ستنفذ في الفرنسيين نفس أساليبهم الإبادية التي يستخدمونها في الجزائر وفيتنام.

ومن نماذج الإبادة الثقافية في التجربة الغربية، المذابح التي نفذها الأوروبيون تجاه الهنود الحمر في القارة الأمريكية، حيث تم التخلص من حوالي (18) مليون هندي بأنواع مختلفة من الإبادات، ونتيجة لذلك أصبح الهنود في منتصف القرن التاسع عشر ظاهرة حدودية لا ترى إلا على الحدود الأمريكية، ونتيجة لذلك دخلوا مساحة الغموض والنسيان، وكثير من الروايات الأمريكية التي نشرت حول الهنود الأمريكيين في القرن التاسع عشر كانت لا ترى في إبادتهم إلا قدرا محتوما، وأن لا سبيل لإنقاذهم من الإبادة الجسدية إلا بالإبادة الثقافية أي أن يكونوا مسيحيين ومزارعين طيبين، وهنا تم تخدير ضمير الجميع وأصبحوا يرون في الإبادة الجسدية والثقافية حقا مشروعا للرجل الأبيض، وأصبحت الإبادة طريقة تفكير تبحث عن المعلومات التي تدعمها، وتهمل الحقائق التي تنقضها، حتى عبر أحد الأمريكيين بقوله:”الهنود يمتصون رذائلنا عندما نختلط بهم، لكنهم لا يحاكون فضائلنا، وتواصلنا معهم مؤذ لهم”، وتم التعامل الأمريكي مع الهنود على أنهم جنس زائل، لذا رسم الفنان الأمريكي جورج كاتلين المتوفى (1872) أكثر من أربعمائة صورة للقبائل الهندية ظنا منه أنها نصب تذكارية للهنود قبل زوالهم.

كانت الأسطورة تخدم السياسة، ورأت الأسطورة أن تحضر الهنود أمر محال، لذا كان الاتجاه الرحيم بالهنود والذين يرفض إبادتهم جسديا، يرى أن يتخلوا  عن ثقافتهم ودياناتهم ويصبحوا مسيحيين ومزارعين أي يكونوا نسخا هندية من البيض، أي إبادة الهنود ثقافيا.

وفي تجربة اليهود في روسيا القيصرية، يرى البعض أن العنف الذي مارسته روسيا القيصرية ضد اليهود كان أحد أدواتها لبناء الأمة الروسية، حيث وقع الروس في مأزق الاختيار بين الإبادة الثقافية وبين الإبادة الجسدية، وهنا وجدت مذابح على المستوى الفردي، غير أن القيصر بيكولاس الأول أصدر عام 1827 قوانين تقضي بأخذ أبناء اليهود من عمر (12) عاما، ووضعهم في بيئة استبدادية لعمر الـ (25) عاما؛ بهدف إعادة صياغتهم ثقافيا ودينيا، وجاءت هذه الإجراءات في ظل أجواء مجتمعية معادية لليهود تعززها الكنيسة والسلطة والصحافة، وهو أوجد قبولا مجتمعيا لسماع وتصديق أي إشاعة بحق اليهود، كما أن القياصرة الروس سعوا إلى احتواء الثقافة اليهودية ضمن مناطقهم ثم تدميرها

وفي التجربة الإسرائيلية في فلسطين يذكر الكتاب أن يهود أوروبا عندما قدموا رض فلسطين جاءوا من بيئة تضطهدهم إلى بيئة تمنحهم امتيازات خاصة، فكان وضعهم يشبه المستوطنين في أمريكا الشمالية، فكانوا عنصريين، وعدوانيين يملئهم إحساس بالتفوق العرقي والثقافي

وقد  ذكر بن غوريون في مذكراته عام 1941 أنه “من الصعب تصور عملية ترحيل تامة دون إكراه وحشي”، لذا كان الترحيل لأكبر عدد من العرب في نظر بن غوريون أمرا ضروريا من أجل إقامة الدولة اليهودية، وأعد قادة الصهيونية خطيتن، الأولى عرفت باسم (Gimil): وتضمنت قتل السياسيين الفلسطينيين، والقادة العسكريين، وممولي المقاومة، وتدمير البنية التحتية المدنية، والثانية عرفت باسم (Dalet) وتهدف إلى تنفيذ الترحيل الإجباري للفلسطينيين من أرضهم، ووقعت عدة مذابح، ودمرت (419) قرية فلسطينية، فكانت عملية تطهير عرقي حقيقة أحدث تحسنا في الوضع الديمغرافي اليهودي مقابل الفلسطينيين، لكن بقى وقتها ما يقرب (150) ألف فلسطيني يعرفون الآن بعرب إسرائيل، وهنا انتقلت إسرائيل إلى الإبادة الثقافية، من خلال “عبـرنة” الأرض عبر إبادة التراث الثقافي الفلسطيني، وبدأ الأمر بإعادة تسمية الأشياء وفق الرؤية الصهيونية، فنشأت “لجنة التسمية” لتهويد المناطق الفلسطينية، وفي الخمسينيات سمحت الحكومة الإسرائيلية للجنود بنهب المواقع المقدسة الإسلامية والمسيحية والمتاحف والسجلات وتدميرها، كما تم منع الثقافة الفلسطينية من الظهور حتى مع اختيار اليونسكو القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009م.

وعلى صعيد البنية القانونية يوجد ما يقرب من (1500) قانون عسكري إسرائيلي يهاجم بعضها قدرات الفلسطينيين في التعبير عن أنفسهم ثقافيا، فهناك قوانين تجرم حمل العلم الفلسطيني أو الاستماع إلى الموسيقى الفلسطينية، ولكن لماذا يمارس اليهود الإبادة الثقافية ضد الفلسطينيين رغم أنهم  عانوا منها أثناء روسيا القيصرية وألمانيا النازية؟

يؤكد الكتاب أن الأشخاص الذين يتعرضون لمستويات عالية ومطولة من الضغط يمكن أن يُظهروا أنماطا شاذة من السلوك، واليهود ينظرون إلى أنفسهم أنهم ضحايا، لذا يفسرون أية مقاومة عربية لطموحهم الاستعماري على أنها نوع من الاضطهاد، لذا يجدون مبررا للمذابح والاضطهاد الذين يفعلونه بحق الفلسطينيين.