لم تعرف القوانين الوضعية قاعدة: “لا جريمة ولا عقاب إلا بنص” إلا في أواخر القرن الثامن عشر؛ في أعقاب الثورة الفرنسية، أما قبل ذلك فكان القضاة يتحكمون في تحديد الجرائم وتعيين عقوبتها، فيعتبرون الفعل جريمة ولو لم يكن ثمة نص على تجريمه، ويعاقبون عليه بأية عقوبة شاءوا ولو لم يكن منصوصاً عليها.

وكان المجربون من البشر يثمنون هذه النظرية العقابية، فيرون أنها تراعي ظروف الجاني، حيث يتفاوت مرتكبو الجرائم حسب حالاتهم النفسية، وظروفهم الاجتماعية، مما يتبعه تفاوت الخطورة الإجرامية من مجرم إلى آخر، مما يستوجب ترك الاختيار للقاضي ليحكم بالحكم الملائم لكل حالة على حدة، حسب الخطورة الإجرامية لكل واحد منهم.

بداية التنصيص على العقوبات

وقد كان أمام العالم الكثير من السنين، والكثير من الدماء التي أهدرت، حتى يكتشف أن هذه السلطة المطلقة للقضاة مفسدة مطلقة، فاستيقظ العالم يعد سُبات طويل على سلبيات هذه النظرية، التي لا يوجد معها آلية تمنع القضاة من الظلم والتعسف والتشهي، والحكم حسب الأهواء.

لم ينتبه العالم إلى هذه السلبيات إلا بعد أن تجاوز القضاة الحدود، وصار الهوى قانون العصر.[1]

وكان ذلك في أواخر القرن الثامن عشر، حينما نادى ( بكاريا) صاحب كتاب ( في الجرائم والعقوبات) حيث نادى بتقييد يد القضاة المطلقة، فجعل القاضي منفذا لا مشرعا، ونقل التنشريع إلى هيئة أخرى بعيدا عنه،  وكان هذا بداية تطبيق مبدأ : لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.

فأصبح القاضي ينفذ العقوبات المنصوص عليها، وقد تميزت العقوبات المنصوص عليها بعد هذا الوقت بالنظرة التجريدية، أي أن يُنص على العقوبة دون نظر إلى الجاني ولا إلى ظروفه، ولا إلى ملابسات وقوع الجريمة.

فعُينت الجرائم تعييناً دقيقا،ً وجعل لكل جريمة عقوبة محددة ليس للقاضي أن يزيد فيها أو ينقص منها، فكانت مهمة القاضي منحصرة في أن يحكم بالعقوبة إذا تبين له أن المتهم مدان، وأن يحكم بالبراءة إذا لم تثبت التهمة .

سلبيات التنصيص

ومرة أخرى يتنبه العالم بعد تجربة ليست طويلة بحسابات أزمنة تطور النظم القضائية، لكنها قطعًا طويلة  في حق من اكتتوا بسلبيات هذه النظرية ممن حوكموا على أساسها، وذهبت حياتهم وأعمارهم نتيجة هذا التطبيق.

فقد كشفت التجربة أن المجرمين ليسوا سواءً، وإن تساوت الجريمة، فهناك السارق الذي يسرق؛ لأنه فقير يحتاج إلى الطعام والشراب، وهناك القاتل الذي يقتل دفاعًا عن عرضه، وهناك القاتل المأجور، وهناك القاتل الموتور، وغير ذلك.

وقد وجد من يجلس على منصة القضاء يده مغلولة عن تحقيق العدالة  في ظل هذه القوانين التي لا تفرق بين مجرم وآخر، أو بين معتد وآخر.

فقد وجد مثلا المحلفون الذين يجلسون على منصة القضاء الفرنسي أنهم لا يمكنهم تحقيق الرحمة، أو العدالة أحيانًا إلا إذا برأوا المجرم من التهمة المنسوبة إليه مع أنه قام بهذه الجريمة فعلًا؛ درءًا لتوقيع العقوبة المقررة عليه، والتي لا يستحقها في نظرهم نظرًا  لظروفه النفسية والاجتماعية وقت تنفيذ الجريمة، والتي لا يملكون تخفيفها.

عودة إلى النظام القديم

وهنا تتفتق أذهان المجربين من البشر عن وضع نظام جديد، يجعل للعقوبة حدين: حدًّا أقصى، وحدًّا أدنى، يملك القاضي توقيع أيتهما على المعتدي حسب الظروف المحيطة بالجريمة. كما ترك للقاضي  الجمع بين العقوبتين أو اختيار واحدة منهما، أو التدرج بين الحدين.

وعلى الجانب الآخر، فقد اكتشف المجربون من البشر أن عددًا كبيرا من المجرمين يمكنهم التفلت من العقوبة، من خلال التقافز بين النصوص القانونية، فيضطر القاضي إلى تبرئة المجرم الذي يقطع بإجرامه بسبب أن النصوص القانونية لم تجرم الوضع الذي نفذ فيه جريمته.

وإزاء هذا التلاعب بالقوانين، عاد المجربون ليعطوا صلاحية للقضاة على المعاقبة بدون نص سابق على الجريمة المنظورة ترميما لهذه السلبيات التي اكتشفوها.

فخول التشريع الألماني الصادر في سنة 1935 للقاضي إذا عرض عليه فعل يمس المجتمع الألماني دون أن يكون قد ورد فيه نص جنائي خاص أن يعتبر هذا الفعل جريمة ويوقع على مرتكبه عقوبة.

وأعطى القانون الإيطالي للقاضي في بعض الأحوال تعديل تنفيذ العقوبة من حيث مدتها وأسلوبها.

أما القانون الدانمركي، فقد أباح العقاب على أي فعل يمكن قياسه على فعل آخر محرم.[2]

موقف الشريعة الإسلامية

أما الشريعة الإسلامية، فقد قدمت نظامًا محكما، يجمع ميزات كل هذه الأنظمة، ويتفادى سلبياتها، يمكن إجماله في النقاط التالية :

1- في الجرائم الخطيرة التي يتأثر بها أمن المجتمع ونظامه تأثراً شديداً تتشدد الشريعة في تطبيق قاعدة ( لا جريمة إلا بنص) فتدقق في تحديد الجريمة وتعيين العقوبة، وهذا يشمل ( جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية).

وفي الجرائم الأقل خطورة – وهي جرائم التعازير بصفة عامة – تتساهل الشريعة في تطبيق القاعدة من ناحية العقوبة، فتجعل لجرائم التعازير كلها مجموعة من العقوبات، وتترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة.

وفي جرائم التعازير المقررة للمصلحة العامة تتساهل الشريعة في تطبيق القاعدة من ناحية الجريمة، وتكتقي بوضع نصوص شديدة العمومية، يدخل تحتها أي فعل يمس المصلحة العامة والنظام العام.

نظام محكم

2- والفرق بين الشريعة والأنظمة الوضعية هنا، هو أن الشريعة تطبق القاعدة بثلاث طرق؛ لكل نوع من الجرائم طريقة خاصة تلائمه وتلائم مصلحة الجماعة والأفراد.

أما القوانين الوضعية فتطبق القاعدة بطريقة واحدة على كل الجرائم، ففي أول الأمر طبقت الطريقة الأولى – التي خصصتها الشريعة للجرائم الخطيرة – على كل الجرائم التي يعاقب عليه القانون، فكان التعميم في التطبيق سبباً في تحرج المحلفين والقضاة من الحكم بعقوبة شديدة في جريمة غير خطيرة وفي تبرئة كثير من القضايا.

ثم عدلت القوانين الوضعية عن هذه الطريقة، وأخذت بطريقة الشريعة الثانية مع تضييق سلطة القاضي في اختيار العقوبة وتحديدها.

ولكنها طبقت هذه الطريقة أيضاً بصفة عامة، فكان من نتيجة هذا التعميم أن كثر وقوع الجرائم الخطيرة، وصارت تزيد عاماً بعد عام؛ لأن القضاة يعاقبون عليها بعقوبات بسيطة، مستعملين سلطتهم في اختيار العقوبة وتقديرها.

وهذه الطريقة هي المتبعة الآن في معظم القوانين الوضعية، إلا أن بعض القوانين الوضعية كالقانون الألماني والقانون الدانمركي أخذت أيضاً بطريقة الشريعة الثالثة في بعض الجرائم؛ فكأنها تطبق الطريقتين الشرعيتين الثانية والثالثة.[3]

3- من حيث الجريمة: تراعي الشريعة، عندما تحدد الجريمة، أن يكون النص عاماً، ومرناً إلى حد كبير، بحيث ينطوي تحته كل ما يمكن تصوره من حالات، ولا يخرج عن حكمه أية حالة،كما في قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] و قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، و قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]، و قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ} [الشعراء: 181] ،  فجاء النهي عامًّا عن ( التجسس، والربا والخيانة) وجاء الأمر عامًّا ب( بتوفية الكيل)

ثم تضيق الشريعة من دائرة هذا التعميم  إلى حد ما في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية.

وفي التعزير المقرر للمصلحة العامة يصل التعميم والمرونة إلى حد تحريم الفعل بوصفه لا بذاته، بحيث لا يمكن معرفة ما إذا كان الفعل جريمة أو غير جريمة إلا بعد أن يقع.

4- من حيث العقوبة: القاعدة العامة في الشريعة هي أن ينص على عقوبة الجريمة بحيث تتعين العقوبة تعينا لا شك فيه، وبحيث لا يكون للقاضي أن يخلق عقوبة من عنده.

وقد فرقت الشريعة بين الجرائم التي تمس أمن الجماعة ونظامها مساساً شديداً، وبين غيرها من الجرائم، والقسم الأول هو جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، والقسم الثاني هو جرائم التعازير بأنواعها المختلفة. ففي جرائم القسم الأول لكل جريمة عقوبة أو عقوبات معينة، لا خيار للقاضي في توقيعها.

أما في القسم الثاني فقد عينت الشريعة مجموعة من العقوبات لجرائم التعازير بأنواعها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة الملائمة أو أكثر من عقوبة، كما تركت له أن يقدر العقوبة من بين الحد الأعلى والحد الأدنى للعقوبة إذا كانت ذات حدين، وأن يوقف تنفيذ العقوبة أو يمضيها طبقاً لما يراه ملائماً لحال المجرم ولظروف الجريمة.

أما القوانين الوضعية فتحدد لكل جريمة عقوبة واحدة هي في الغالب ذات حدين، أو تحدد لكل جريمة عقوبتين كلتاهما ذات حدين، وتترك للقاضي أن يوقع العقوبتين أو عقوبة واحدة، وأن يقدر العقوبة من بين الحد الأدنى والأعل للعقوبة، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة بشروط معينة وله أن يمضيها، وفي كيثر من الجرائم تشترط القوانين الوضعية أن لا تنزل العقوبة عن حد معين

كما أنها تمنع إيقاف تنفيذ العقوبة، والغالب أن يكون ذلك في الجرائم الخطيرة.

وظاهر من هذا أن سلطة القاضي في القوانين الوضعية أضيق بكثير من سلطة القاضي في الشريعة، فالقاضي الذي يطبق القانون الوضعي مقيد بتطبيق العقوبة التي حددها القانون إذا كانت عقوبة واحدة، ولا يستطيع أن يختار إلا بين عقوبتين إذا أعطي حق الاختيار، وليس له في كثير من الأحوال أن ينزل بالعقوبة عن حد معين، وليس له أن يوقف التنفيذ في كثير من الجرائم، وهو بالتالي لا يملك السلطان الكافي الذي يساعده على معالجة المجرم والإجرام علاجاً يتفق مع المصلحة العامة.

 

ألا يعلم من خلق

وقد رأى الكثير من كبار العلماء أن علاج هذه الحالة لا يتأتى إلا إذا أمكن القاضي من اختيار العقوبة نوعاً ومقداراً، وهذا يتأتى إلا إذا كان له أن يطبق مجموعة من العقوبات.

وهذا الذي ينادي به علماء القانون أخيرا، هو نفس ما تأخذ به الشريعة… لكن بعد أن ذاقت البشرية ويلات التجارب البشرية المراهقة، وصدق الله القائل : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، والقائل: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

 


 

[1] –  الظاهرة الإجرامية “دراسة في علم الإجرام والعقاب” ، جلال ثروت،  ص194.

[2] – التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (1/ 159)

[3] – التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (1/ 160)