في الـخمسينيات من القرن الـماضي، تنبأ السوسيولوجي هلموت شلسكي بظهور دولة من نوع جديد، تتأسَّس على “الآلة الالكترونية” وتُنتج حكومات آلية تفرض “الطاعة الكلية لها”؛ وقد ينزلق مبدأ “الديمقراطية” إلى ضدِّه تماما، لأنَّ “كلَّ معارضة ضدَّ الحقيقة المضمونة تقنيا؛ ستكون لا عقلية”. وبعد نصف قرن من الزمان تنبأ الأميركي بيل جوي بأنَّ “التقنية النينية Nanotechnology” ستُصبح ضرورية، أو مفروغا منها، وقد تقضي هذه التقنية – بمساعدة التقنية الجينية والروبوتيك – على الوجود الإنساني برمَّته!

والـحال أنَّ تخوف العديد من رجالات الدِّين والفلسفة والعلم من نجاح العلم الحديث في السيطرة على الإنسان لم يعد خافيا. فكثير من المراقبين الغربيين اليوم باتوا يخشون انحطاطَ كلِّ ما يمنح معنى عميقا للحياة المعاصرة. وهم يعزون هذا التراجع إلى ازدهار “العولمة” التي تحصر اهتمامَها بالتطور التقنيِّ، على حساب الرُّوح. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ قوَّة العلم في الوقت الراهن لا تكمن في صحته وموضوعيته، بل أصبح العلم المعاصر – على العكس من ذلك تماما- مصدرا لعدم اليقين بالنظر إلى فرضياته!

على أن ذلك لا يجعلنا نغفل عن ملاحظة أن العولمة، وعلى العكس مما يُظنُّ غالبا، لا يمكن اختزالها في تحرير الأسواق، أو في سيطرة فكرة شمولية ما؛ وإنما هي – كشعور بالانتماء للعالم – نشأت منذ زمن بعيد، حيث تعود بجذورها إلى قرون عديدة حين فكَّر الفلاسفة داخل الامبراطورية الرومانية بمفهوم المواطنة العالمية. ومن ثمَّ؛ فإنَّ تاريخ العولمة الأولى – أي تلك المرتبطة بالمستكشفين والاستعمار، والتي أرست كل أنواع التسلط والاستبداد – يجب ألا تُنسينا العولمةَ الثانية؛ عولمةَ “الضمائر” المرتكزة على فكرة إنسانيتنا المشتركة، وعلى الرؤية الاستشرافية لمواطَنة كونية، وإمكانية قيام تعايش مُتناغم بين الثقافات المختلفة.

لكنَّ كثيرا من المراقبين الغربيين باتوا يتساءلون اليوم: كيف وصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟! ويحذِّرون من سيادة أفكار من مثل: “العدمية” و “ضياع المعنى” و “زوال القيم”، فيما يُبشِّر آخرون بـ “صدام الحضارات”، و “نهاية التاريخ”، و “موت الفلسفة”، و “نهاية الحقيقة”، و “فقدان الحكايات الكبرى مصداقيتها (بما في ذلك الدِّين والمنطوقات الدِّينية؛ بوصفها حكايات لا بدَّ من تجاوزها!)”…إلخ.

وليس أدل على ذلك من أننا نعيش اليوم – وعلى المستوى الكونيِّ برمّته – أزمة انهيار نظُم القيم بسبب التغيرات الكبرى التي أصابت بُنى المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وأنماط الإنتاج، وسيولة المعلومات، وهياكل العلاقات الأسرية، ومضامين القوانين التي باتت تنظم تلك العلائق، مما زجَّ بالإنسان المعاصر في أتون ضروب مُتعددة من المعاناة: كالإحباط، وخيبة الأمل، والإحساس بالاغتراب، والشعور بالضعف، والمعاناة من عدم الانسجام، فضلا – بطبيعة الحال – عن كافة مظاهر الشذوذ في السلوك والحياة.

فمنذ فجر الحداثة – أيام النَّهضة، ثم في عصر التنوير الأوربيّ – نشأت مقولتان أخلاقيتان حلَّت الواحدةُ مكان الأخرى، فحدَّدتا معالم الطريق إلى العولمة:

الأولى: تمثَّلت بالكلية والـمثُل الـمطلقة.

والثانية: تمثَّلت بالتعدُّدية وتنوع الـممارسات. ومع أنَّ ذلك شكَّل، حينها، ما يُمكن وصفُه بـ “البوصلة الأخلاقية”، لكنْ ما إنْ وصلنا إلى تخوم عالمنا الـمعولم حتى فقدنا الوسائل اللازمة لاستكشاف تعقيداته! إذ أنتجت العولمة أرضية مركَّبة، ومُربكة، بحيث صارت معها وسائل إبحارنا القديمة قاصرة عن استكناه منطقها الذاتي.

وبحسب البعض؛ فإنَّ “ما بعد الحداثة” إنما يُمثِّل الإجهاز الكامل على القيم الـمتسامية والتحضير لقدوم “ما بعد الإنسان”. ولهذا؛ فإنَّ ثمة تحديين كبيرين في عالمنا المعاصر: فهناك خطر الإرهاب الذي يلاحق الإنسان يوميا، والذي يعتبر المرض الجديد للإنسانية. أما التحدي الكبير الآخر، فهو التقدم الخطير لعلوم البيولوجيا التي قد تقلب رأسًا على عقب؛ ليس فقط تصور الإنسان لنفسه، بل أيضا علاقته بنفسه ذاتها. ذلك أن مرور تمثُّل الإنسان لذاته كمخلوق من مخلوقات الله تعالى، إلى تمثُّلٍ يتصوَّر الإنسانُ فيه بأنَّه هو الذي خلق نفسه بنفسه! سيُفسح المجال لا محالة إلى تكريس فكرة اعتبار الإنسان موضوعَ العلم ليس إلا، وليس ذاتا إنسانية ذات كرامة أنطولوجية؛ كما ينص على ذلك القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.

يتحصَّل مما سبق، أن قيم “ما بعد الحداثة”، أو “أخلاق ما بعد الحداثة”، ترتبط ارتباطا وثيقا بتحولات عارمة يشهدها المجتمع الحداثيِّ النافر من المجتمع التقليديِّ بمنظومات قيمه المتوراثة. على أنَّ التساؤل الذي يطرح نفسه، وبقوة الآن، يتجاوز حدود تلك المخاوف المبرَّرة حول خلو عالم اليوم من أية قاعدة سلوكية، إلى تساؤل آخر حول وجود ومرجعية القيم بحدِّ ذاتها! وذلك رغم إقرارنا بأنَّ الغرابة في ظاهرة العولمة لا تكمن في ذلك الغياب الوهميِّ والمتصنِّع للقيم؛ بل في ضياع “البوصلة الأخلاقية” المحدِّدة لتلك القيم.

وهو ما عبَّر عنه جيروم بندي بالقول: “إنَّ القرن العشرين قد أعاد النظر بصفة مؤلمة في ثوابتنا اليقينية فيما يتعلق بالمجتمع والتاريخ والإنسان. وإنَّ أزمة القيم الحالية لا تخصُّ فقط الأطر الأخلاقية التقليدية التي أرْسَتْها الدِّيانات الكبرى؛ وإنما تخصُّ القيم العلمانية أيضًا التي سعَتْ لأن تكون البديل (العلم، التقدم، تحرُّر الشعوب، المثُل التضامنية والإنسية). وإنَّ الفظاعة التي طبعت القرن العشرين (الحروب العالمية) لا تزال، على ما يبدو، تُهدِّد مستقبلنا. فتطور التقنيات، وهو العامل الحاسم، وغير المتوقَّع، والذي لا يمكن كبْحُ جماحِهِ في التغيير، ألا يُخشى أنْ يُؤدِّي بنا إلى إنسانية لا نعرفُ ماهيتها، والتي يحلو للبعض أن يُطلق عليها اسم “ما بعد الإنسانية”؟!

بمعنى آخر: لا توجد أزمة قيم بالمعنى الكمِّيِّ الإحصائيِّ العدديِّ؛ وإنما تكمن الأزمة الحقيقية في تحديد معنى و”مرجعية” القيم، وكيفية توجُّهنا بين القيم، وإدارة منظومات القيم فيما بينها. فالقيم يمكن أن تستحضر طبيعتها الحقيقية في إمكانية التحوُّل والتبدُّل، ضمن المسار الـمُعمَّم للقيمة التبادلية؛ مما يستوجب الاتفاق على القيم المشتركة أولا، وتعزيز ما يؤدِّي إلى تكريس التعايش المشترك ثانيا، وإدارة هذا التعايش من خلال الحوار ثالثا، وصولا إلى إعادة النظر بشأن القيم الأخرى، والإقرار بإمكانية تبلورها بالمشاركة، وأن تُصبح محور نقاشٍ فعَّال دائم، وأخيرا أن تصبح محل اتفاق بين الفاعلين الثقافيين والدِّينيين والرُّوحيين: إثراءً للتنوُّع، واعترافًا بالتعدُّد، واحترامًا لثقافة الاختلاف مع الآخر .. وتلك قضية أخرى، ربما نعرض لها في مقال لاحق.