أين الله من هذا الظلم الذي يغطّي الأرض؟”، هذا السؤال أرسله إليّ أحد الشباب المتأثرين بموجة الإلحاد الجديد، التي بدأت بالظهور كردة فعل غير مدروسة على هذه الفوضى والحرائق المشتعلة في كل مكان، والكوارث التي يصنعها طغاة البشر على هذه الأرض، حتى غدت كأنها جحيم لا يطاق.

إن السؤال بحد ذاته يعبّر عن حالة من الإحباط واليأس من محاولات الخلاص والتغيير، فكان هذا التوجّه نحو السماء، لكنه توجّه ينقصه الوعي بحقيقة العلاقة بين الأرض والسماء، وربما كان الخطاب الديني المشوّه سبباً رئيساً في ردة الفعل هذه، وجذبها باتجاه الدين نفسه، وليس باتجاه الظالمين والمفسدين.

إن الخطباء الذين يضخّون في الأمة قدراً كبيراً من الأمل الموهوم المستند بالأساس إلى تفسير الأحداث تفسيراً غيبياً قدرياً، يرتكبون خطيئة كبيرة بحق الأمة وبحق الدين نفسه؛ فالذي يُولد تحت وطأة الظلم ويشبّ على ذلك، وهو يسمع كل يوم: اصبر فإن وعد الله آت! ثم يهرم ويرى أبناءه وأبناء أبنائه يسيرون على الدرب نفسه، وهم يسمعون الخطاب ذاته معاداً ومكروراً دون ملل أو كلل ولا مراجعة ولا حساب، والإحالة دائماً من غيب إلى غيب، ومن قدر إلى قدر، كيف لا يُتوقّع منه أن ينتفض بوجه هذا الخطاب، وأن يتجرأ بمثل هذه الأسئلة المملوءة بالشك والتذمر والإحباط؟!

إن الله فعّال لما يريد، نعم، لكن هذه الإرادة لا تخضع لمقاييس البشر ورغباتهم، والتنبّؤ بها والبناء عليها نوع من التغرير الذي لا يسنده نص ولا يستوعبه عقل.

قال أحدهم وهو ممتلئ باليقين: «حاشا لله أن يمكّن للصليب في بلاد الرافدين»، قلت له: «لكن مُكِّن للصليب في بلاد الأندلس». إن القرآن يقص علينا قصة أصحاب الأخدود يوم أن أُبيدت الثلة المؤمنة حرقاً دون نجدتهم: {قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ . النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ . وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، فها هو القرآن يثبت الإيمان لهؤلاء المستضعفين دون ذكر عيب أو ذنب لهم، ويثبت الظلم والعدوان لخصومهم، ومع هذا لم يتدخل القدر لدفع الظالم ولا لنصرة المظلوم، وقد نزلت هذه الآيات في مكة والمسلمون يئنّون تحت سياط أبي جهل وأمية بن خلف، فما الحكمة في ذلك؟

إن منهجية القرآن في تربية هذه الأمة وإعدادها تختلف عما نراه ونسمعه اليوم من خطب ومواعظ. إن القرآن يحمّل الأمة مسؤولية بناء نفسها، واستعدادها لحماية أرضها وعرضها، وحينما تقصّر الأمة في ذلك فلن يتدخل القدر لمساعدتها، أو قلب الموازين لصالحها. وقد رأينا المسلمين في معركة أحد بعد أن زلت ببعضهم القدم فكانت النكبة، ونزل القرآن معلّماً ومنبهاً ومشخصاً سبب هذا الذي حصل: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ..}، {..قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}.

إن القرآن حينما قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، قد ألقى بشكل واضح مسؤولية إدارة هذه الأرض على عاتق الإنسان. والتعويل على القدر الإلهي في كل نازلة يعني إعفاء الإنسان من هذه المسؤولية وإعادتها إلى الله!