هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني صاحب كتاب “الصيدنة”،ولد في ذي الحجة عام 362 للهجرة ( 4 سبتمبر من عام 973م ) بضاحية من ضواحي خوارزم، ويذكر بعض المؤرخين أنه منسوب إلى بيرون وهي من مدن السند (في باكستان اليوم)، ولكن الأرجح أنه من خوارزم ولكن لكثرة مقامه خارجها أطلق عليه “البيروني”، وهي تعني “الغريب” أو الآتي من خارج البلدة، وقد التبس اسمه مع الخوارزمي الرياضي الشهير عند بعض المحدثين. وقد اختلفت المصادر في أصله: هل هو فارسي أم تركي؟ وهذا الأمر لن يزيد أو ينقص منه شيئًا.
من هو أبو الريحان البيروني ؟
عُرف عن أبو الريحان البيروني أنه عالم في الرياضيات والفيزياء، وهو مؤسس علم (الميكانيكا التجريبية) وعلم (الفلك التجريبي) ، وكان له اهتمامات في مجال (الصيدلة) و (الكتابة الموسوعية) و (الفلك) و (التاريخ) ، وهو من أوائل من وضع (الوزن النوعي) ، سميت فوهة بركانية على سطح القمر باسمه إلى جانب ٣٠٠ اسم لامع لتسمية الفوهات البركانية كابن سينا والخوارزمي وأرسطو، أطلق عليه المستشرقون: (بطليموس العرب) ، درس الرياضيات على يد: منصور بن عراق، وعاصر ابن سينا وابن مسكويه، تعلم اللغتان اليونانية والسنسكريتية خلال رحلاته، كتب مؤلفاته باللغتين العربية والفارسية، تأثر بـ: أرسطو وبطليموس وبراهماغويتا وأبي بكر الرازي وأبي سعيد السجزي ومنصور بن عراق وابن سينا، تأثر به: عمر الخيام وزكريا القزويني
من مؤلفاته: (الصيدلة في الطب) و (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) و (الاستيعاب في تسطيح الكرة) و (التفهيم لأوائل صناعة التنجيم) و (الإرشاد في أحكام النجوم) و (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم) ، توفي 12 ديسمبر 1048م .
البيروني وكتاب “الصيدنة في الطب
لا يؤرخ مؤرخ لأبي الريحان إلا ويقر له بالعظمة في العلم، بل ويصل بعض مؤرخي العلوم من الغربيين إلى أنه من أعظم العلماء في كل العصور والأزمان، مثل “جورج سارتن” – المؤرخ العلمي الشهير، صاحب كتاب تاريخ العلم -.
ولم يكن البيروني صاحب “الصيدنة”يطلب المال بعلمه، فقد أرسل له أحد ملوك الهند “محمود الغزنوي” حِمل فيل من الفضة، فاعتذر عن قبوله لعدم حاجته إليه، ولم يكن ساعيًا لمنصب، فقد حدَّد أحد الملوك إقامته في بيته؛ لأنه أصر على رأيه المعارض للملك، ولم يكن راهب علم وحسب، بل كان رجل سياسة وفكر، تولى العديد من المناصب الهامة في الدولة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لولا عمله في السياسة لتضاعفت مؤلفاته، وكان أصحاب العقول من الملوك يقولون له: “العلم من أشرف الولايات يأتيه كل الورى ولا ياتي والله لولا الطقوس الدنيوية لما استدعيتك، فالعلم يعلو “ولا يُعلى”. قد عاصر البيروني العديد من ملوك وسلاطين الهند وخوارزم، من أمثال أبو العباس المأمون، ومحمود الغازي بن سبكتكين، وابنه مسعود الغزنوي.
وقد كان للبيروني علاقات بمختلف علماء عصره، من أمثال ابن سينا والفلكي أبي سهل عيسى النصراني، وقد أتقن البيروني العديد من اللغات إلى جانب الخوارزمية – لغة بلده – والعربية، فقد أتقن الفارسية والسريانية والسنسكريتية (لغة مستخدمة في الهند) واليونانية، وقد ساعده ذلك على الاطلاع على أصول العلوم في لغاتها الأصلية دون التورط في الترجمات وأخطائها المحتملة.
وقد كتب أبو الريحان عددًا كبيرًا من المؤلفات في مختلف العلوم، ونقل في كتبه آراء علماء الشرق والغرب القدماء، وناقشها وأضاف إليها، فوضع المؤلفات في مناقشة المسائل العلمية المختلفة، مثل وصفه لصورة واضحة في تثليث الزوايا في حساب المثلثات والدائرة، وبحث بحثًا مستفيضًا في خطوط الطول والعرض، ودوران الأرض حول محورها، كما بحث في الفرق بين سرعة الضوء وسرعة الصوت، وأوضح الفرق الكبير بين سرعتيهما، كما استخدم قاعدة الأواني المستطرقة في شرح تدفق الينابيع والآبار الارتوازية، هذا بالإضافة إلى ما كتبه في تاريخ الهند.
ومن أهم ما كتب البيروني كتاب “الصيدنة” وهو في علم الصيدلة (ويطلق عليه في التراث الأقرباذين)، وكتاب “الجماهر في معرفة الجواهر” وهو من أنفس ما كتب؛ إذ في هذا الكتاب يوضح أنواع الأحجار والجواهر وخصائصها الطبيعية، ويوضح كيفية قياس الوزن النوعي لها، وفي قياسه للأوزان النوعية يوضح الأوزان النوعية لبعض العناصر بما لا يخرج عما استقر عندنا الآن في ظل العلوم الحديثة.
ونعرض هنا الكتاب الأول وهو كتاب “الصيدنة في الطب” : هذا المخطوط يقع في 427 صفحة، والنسخة الموجودة مؤرخة بتاريخ 678هـ، وهي بخط إبراهيم بن محمد التبريزي، وقد نقلها الناسخ عن نسخة بخط المؤلف الأصلي وهو البيروني.
والمخطوطة مقسمة إلى مقدمة وخمسة فصول:
الفصل الأول: وفيه عرف لغويًّا كلمة “الصيدنة” و”صيدناني” وأنها معربة عن “جندل” و”جندناني” وهما كلمتان هنديتان تعبران عن بائع العطور والأعشاب والأدوية، والقائم بمزجها، وحرف “ج” الهندي يقلب “ص” في العربية، وأصل “الجندل” هو نبات شهير عند الهنود والعرب، وهو في العربية “الصندل”، ثم أوضح أن لفظة “الصيدلاني” أفضل في التعبير عن هذه المهنة، وهذه اللفظة التي اختارها هي المستقرة في اللغة العربية اليوم، وقام بتعريف مهنة الصيدلاني بأنها “وهو المحترف بجمع الأدوية على أحمد صورها واختيار الأجود من أنواعها، مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلَّدها مبرزو أهل الطب، وهذه هي أولى مراتب صناعة الطب…”.
الفصل الثاني: وفيه قام بشرح الأدوية والعقاقير، والابتداء كان بتعريف أصل كلمة “عقار” وهي كلمة سريانية تعني الجرثومة وتعني الدواء القاضي عليها، وقد قسَّم العقاقير إلى ثلاثة أنواع: الأدوية – الأغذية – السموم.
وكل منها فيه ما هو مفرد وما قد يكون مركبًا، وأن الدواء السُّمّي يحتاج إلى محترف بارع مجرب حتى يخفف أثر السم، ويحصل على فائدته للجسم العليل.
الفصل الثالث: وفيه يشرح البيروني أنواعًا من الأدوية المفردة، وأنواعًا من المركبة، ثم يقوم بشرح دور الصيدلاني في أمرين:
أحدهما الحذف: وهو أن ينقص الدواء من أحد العناصر الموصوفة من الطبيب متى عجز عن توفيره، وهذا حرصًا على توفير الدواء الممكن لعلاج المريض، ولكن يجب أن يفقه الصيدلاني أهمية العنصر لسائر العناصر ودوره في علاج المرض.
والثاني التبديل: وهو إبدال عنصر مكان عنصر، وذلك في حالة إذا ما توفر نوع قريب الشبه في الخصائص والأداء في الجسم من عنصر مفقود، وهذا يحتاج إلى معرفة دقيقة بخصائص العناصر المختلفة وأدائها في الأجسام وعملها مع غيرها من العناصر في إزالة العلل من الأجساد، وهذا قد يتطلب تغيير نسب الدواء المنصوص عليها، وهذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة طويلة، وذلك حتى لا يجلب الضر للمريض بدلاً من الشفاء؛ وهنا يشيد البيروني بالأطباء والصيادلة اليونان وفضلهم في هذا المجال.
الفصل الرابع: وفيه يشرح البيروني مآثر اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن سائر الأفكار والعلوم، وفضلها على سائر اللغات الأخرى، وسعتها في تقبل المصطلحات العلمية الوافرة من العلوم المترجمة من الحضارات والثقافات الأخرى.
الفصل الخامس: وفي هذا الفصل يشرح طرائق الحصول على العلوم والمعارف من منابعها الأصلية، وأهمية معرفة لغات عديدة، ويقول عن نفسه: إنه يعرف أسماء الأدوية والعقاقير في اللغات المختلفة، ويوضح خطورة الخطأ في قراءة اسم العقار، خاصة أن العربية بها خاصية التشكيل التي قد تغير معنى اللفظة تغييرًا كليًّا، ويضرب الأمثلة على ذلك من خلال عرضه لبعض الروايات في صرف أدوية خطأ بسبب القراءة المغلوطة لاسم الدواء، ثم بدأ في عرض أسماء مجموعة كبيرة من الأدوية، مع شرح دور كل عنصر فيها وخصائصه، واسمه في اللغات المختلفة، وقد جعل ذلك على حروف المعجم.
وفي شرحه للعناصر نجد أمورًا يوردها في بساطة على أنها من الأمور المشهورة والمعروفة عنده، وهي مما اكتُشف حديثًا، مثل حديثه عن “الإسرنج” وهو أكسيد الرصاص الأحمر وكيف تؤثر النار فيه، وفعل الكبريت المنصهر أو بخاره في هذا الأكسيد، وتغيُّر لون الأكسيد في كل تجربة.
كذلك يصف طريقة تحضير “الزنجار” وهي كربونات النحاس القاعدية وكيفية استعمالها في التهابات العيون، ووضّح الفرق بينها وبين كبريتات النحاس، وأن الأولى تتحول إلى اللون الأحمر الغامق عند التسخين بعكس الثانية، وهو ما عرف الآن أن كربونات النحاس تتحلل بالتسخين إلى أكسيد النحاس وثاني أكسيد الكربون، أما كبريتات النحاس فلا تتغير في اللون.
وكذلك يصف استخراج الزئبق فيقول “وأحجاره حُمْر تنشق في الكُور (أي في الفرن الساخن) فيسيل الزئبق منها”.
ومن هذا العرض المختصر نستطيع أن نتعرف على صورة من أداء العلماء في علم الصيدلة، وكيف جمعوا تراث من قبلهم، وأضافوا إليه، ونقلوه إلينا، ولكن لما كانت أيدينا مشغولة بقتال بعضنا بعضًا، أخذ آخرون هذه العلوم، وصاروا بها قادة لركب الحضارة الإنسانية.
وسوف يزداد اليقين بدور علماء الإسلام في كتاب البيروني الثاني “الجماهر في معرفة الجواهر”.