ارتبط تبرير الوسائل بغاياتها بالمذهب الميكافيللي، مما أورث خصومة بين هذا المبدأ وبين الثقافة الإسلامية، فميكافيللي حينما قرر أن الغاية تبرر الوسيلة كان قصده في ذلك أن يخدم الحكام المستبدين، وأن يريح ضمائر الاستبداديين من  التحرج  من كل وسيلة مرذولة متى كانت الغاية منها تثبيت أركان حكمه!

يقول الأستاذ فاروق سعد، ملخصًا هذا الجانب من الفكر السياسي عند مكيافيلي: “وانطلاقا من اعتبار مكيافيلي أن غاية السياسة هي المحافظة على قوة الدولة، والعمل على ازديادها، فقد عني في كتاباته بالوسائل التي تحقق قوة الدولة وتُمكنها من توسيع سلطانها في الخارج. والوسائل التي يقصدها مكيافيلي لم تكن تقوم على المقاييس المسلم بها، وسيما المقاييس الأخلاقية. ذلك أن المهم والأولى هو تحقيق الغاية المنشودة، ولا عبرة في الوسيلة الموصلة إليها. ومن هنا تبرير مدح مكيافيلي للحكام الذين يحققون تركيز سلطتهم وقوة دولهم، دون الأخذ بعين الاعتبار الوسائل التي لجأوا إليها لتأمين ذلك، ودون مراعاة عدم ارتباط هذه الوسائل بالقيم والمسلمات الأخلاقية. [تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده ، بحث ملحق بكتاب (الأمير) ص 247].

فكان من الطبيعي أن تنشأ هذه الخصومة بين الفكر الإسلامي وهذا الفكر التبريري، الذي لا يعبأ باحترام أي فضيلة متى وقفت عائقا في طريق تثبيت الدولة، وهو ينص على ذلك نصًّا فتراه يقول مثلا:  “الأمراء الواقعيون، هم الذين يحرصون أولًا وقبل كل شيء على النجاح والتفوق والنصر. ويتمكنون من تثبيت سلطانهم وهيبة دولهم، ولو اقتضى ذلك الغدرَ، ونكثَ العهود، والبطشَ، والقسوة” [كتاب الأمير لميكافيللي]

من التبرير إلى المثالية

لكن يبدو أن  هذه الخصومة مع الفكر التبريري أدى إلى نشوء فكر مثالي في الوسط الإسلامي، بدا معه هذا الفكر المثالي أقرب إلى المثالية الحالمة.

فمن يمكنه أن يدعي تحريم الإسلام للكذب في موطن يكون فيه الصدق مهلكة للمظلوم وإعانة للظالم على ظلمه؟

فإذا كان الفكر الصوفي يحكي أن هاربًا لجأ إلى أحد الصالحين، وقال له: أَخْفِني عن طالبي، فقال له: نَمْ هنا، وألقى عليه حزمة من خوص، فلما جاء طالبوه وسألوا عنه، قال لهم: ها هو ذا تحت الخوص، فظنوا أنه يسخَرُ منهم فتركوه، ونجا ببركة صدق الرجل الصالح.

إذا كان هذا في لغة الوعظ والتصوف صدقًا محمودًا، فهو في نظر الفقهاء صدقا مرذولًا.

الكذب حينما يكون واجبًا

فيذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام حالات يكون فيها الكذب واجبًا، فيذكر منها :

– أن يختبئ عند أحد شخص بريء معصوم الدم، هربًا ممن يريد قتله، أو قطع يده ظلما.

– أن يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده فيسأله عنه ، فيقول : ما رأيته، فهذا الكذب أفضل من الصدق، لوجوبه من جهة أن مصلحة حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع، فما الظن بالصدق الضار؟ وأولى من ذلك إذا اختبأ عنده معصوم ممن يريد قتله. [قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 113)]

كما يذكر من الأمثلة التي يجب فيها الكذب:

– أن يسأل الظالم القاصد لأخذ الوديعة المستودع عن الوديعة فيجب عليه أن ينكرها، لأن حفظ الودائع واجب وإنكارها ههنا حفظ لها، ولو أخبره بها لضمنها وإنكارها إحسان.

– أن تختبئ عنده امرأة أو غلام يقصدان بالفاحشة، فيسأله القاصد عنهما فيجب عليه أن ينكرهما.

ويقول النووي: “اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرما، فيجوز في بعض الأحوال، فالكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه ، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب . ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا ، وإن كان واجبا ، كان الكذب واجبا . فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله ، أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه ، وجب الكذب بإخفائه . وكذا لو كان عنده وديعة ، وأراد ظالم أخذها ، وجب الكذب بإخفائها . والأحوط في هذا كله أن يوري. ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه ، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ، ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب ، فليس بحرام في هذا الحال .

واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول : (( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمي خيرا أو يقول خيرا )) . متفق عليه”. [رياض الصالحين (2/ 196)]

ويقول الدكتور الريسوني: ” وإذا كان من غير الممكن قبول مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) على عمومه، وعلى علاته، وعلى ما شحن به من آراء وتطبيقات مكيافيلية، فإن من غير السليم أيضًا ما يتجه إليه كلام بعض الكتاب الإسلاميين، من إنكار لكل تأثير للغايات على أحكام الوسائل، مما يؤدي إلى جمود في الفكر والعمل، بل قد يؤدي بالمسلمين إلى تفويت الكثير من مصالحهم المشروعة. فيجب أن نحذر من تأثير رد الفعل، وأن نحذر الإفراط في مثالية ساذجة تشل أفكارنا وأعمالنا، مثلما نَحذر النموذج المكيافيلي والبيئة التي أفرزته، وأن نلتمس الحق والصواب، ونتمسك بهما. وحبلنا المتىن في هذا المسلك هو المنهج العلمي النزيه، الذي لا يخاف في الله لومة لائم. [ نظرية التقريب والتغليب، ص 394]

ابن  تيمية لا ينكر على شارب الخمر!

ومن أبرز الأمثلة التطبيقية في ذلك، ما رواه ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، يقول : “وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم!” [إعلام الموقعين (3/ 5)]

ضوابط تبرير الوسائل

على أن جواز الوسائل التي تؤدي إلى الغايات النبيلة والمشروعة، لا بد فيه من مراعاة الشروط الآتية:

1 – أن يقع استنفاد الوسائل المشروعة أو تعذرها.

2 – أن تستعمل الوسيلة المحظورة بالقدر اللازم دون تجاوزه.

3 – ألا يكون في ذلك ظلم لأحد.

4 – ألا يكون في ذلك مفسدة أعظم.

5 – ألا يكون في ذلك غدر ولا نقض لعهد. [ نظرية التقريب والتغليب، ص 403]