من أهم معالم حيوية الإسلام، ومن أكبر العلامات المشيرة إلى خلوده، وإلى قدرته على الانبعاث والتجدد حتى قيام الساعة- لأنه كلمة الله الأخيرة للبشرية- ما نراه من مجدِّدين في تاريخ الإسلام طولاً وعَرْضًا.. مجددين يَنبعِثون- أو بالأدق: يُبتعَثون ويُصطَفون- على فترات، كلما أصاب مسيرتَه غبش، وابتعد المسلمون عن جادته وهديه.. على النحو الذي قرره الحديث الشريف: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمةِ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ، مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”([1]).

وقد ذهب العلماء المحققون، ومنهم الحافظ ابن حجر، إلى أن من يقوم بالتجديد قد يكون فردًا، أو طائفة؛ بحيث يُسهم كلُّ فرد من هذه الطائفة في تحقيق التجديد في مجال ما، حسب قدرته ومهارته([2]).

ولما كان الناس من شأنهم أن يستقيموا على الصراط والمنهج فترة من الزمن، ثم ينحرفوا فترة أخرى، وأن يهتدوا بنور الوحي ثم تغلبهم أهواؤهم وشهواتهم؛ كانت سنة الله تعالى أن يبعث لهم الأنبياء والمرسلين، مبشِّرين ومنذرين، كلما طال بُعدهم عن الله، وقست قلوبهم.. حتى خُتمت مسيرة الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا نبي بعده، ولا رسالة من السماء بعد رسالته.

ويلاحظ فيلسوف الإسلام وشاعره، محمد إقبال، أن خَتْمَ النبوة كان إيذانًا بأن يأخذ العقل مكانته في المسيرة البشرية. فما دام الوحي قد انقطع عن الأرض بختم النبوة، فليس أمام الإنسان إلا أن يُفعِّل عقله: فيما معه من منهج، وفيما سبقه من تاريخ، وفيما حوله من كون؛ فتجتمع له- حينئذٍ- ثلاثة محدِّدات، أو ثلاثة مصادر للمعرفة: المنهج الإلهي، والمنهج التاريخي، والمنهج التجريبي.. دون أن يتسلط على الإنسان أحد من الكهان، أو ممن يزعمون لأنفسهم سلطةً روحية مستمدّة من الله..

يقول إقبال: “ميلاد الإسلام هو ميلاد العقل الاستدلالي… ففي الإسلام تبلغ النبوة كمالَها باكتشافها لضرورة وضع نهاية لمسلسل النبوات؛ بحيث تكون هي النبوّة الخاتمة ولا نبوّة بعدها. وفي هذا الموقف يتجلّى الإدراك العميق: أن الحياة لا يمكن أن تظل إلى الأبد تقودها خيوط من خلفها، وأن على الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه أن يُترك أخيرًا ليعتمد على مصادره المعرفية الخاصة به”([3]).

ويوضح إقبال أن “إبطالَ الإسلام للكهنوت، وللسلطات الوراثية الطاغية، ودعوةَ القرآن المستمرة لإِعمال العقل والتجربة، والتأكيدِ على النظر في الكون والتاريخ كمصدرَيْن للمعرفة الإنسانية؛ كل هذه جوانب مختلفة وثمار لفكرة عبقرية هي (ختام النبوة)”([4]).

فإقبال هنا يجعل العقل- المهتدي بنور الوحي، وبسنن التاريخ، وبقوانين الكون- امتدادًا يقوم بوظيفة الأنبياء، الذين خُتموا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.. من حيث تذكير الناس بربهم بعد الغفلة، وإعادتهم إلى جادة الصواب بعد الانحراف، ووضعهم على الصراط بعد التيه.

ولعل ما خلص إليه إقبال وفصَّله، يتلاقى مع ما أشار إليه الإمام محمد عبده في كتابه القيم (رسالة التوحيد)، وهو يتحدث عن “وظيفة الرسل”؛ حيث قال: “تبين مِمَّا تقدم في حَاجَة العالَم الإنساني إلى الرُّسل، أَنهم [أي الرسل] من الأُمَم: بِمَنْزِلَة العُقُول من الأشخاص”([5]).

وإذا كان محمد إقبال يعتبر أن العقل المؤمن الفاقِه لسنن التاريخ ومعادلات الكون- أو “الأنْفُس والآفاق” بالتعبير القرآني- هو ما يقوم مقام النبوات التي خُتمت بمحمد صلى الله عليه وسلم.. فيمكن لنا أن نقول: إن المجددين الذي يظهرون على مسرح التاريخ، هم من يقومون مقام الأنبياء؛ في دعوة الناس والعمل على هدايتهم ووَصْلِهم بربهم وبمنهجه.

فالعقل- بخصائصه الثلاثية كما أوضحنا- يقوم مقام النبوة؛ من حيث المنهج أو الدعوة.. والمجددون يقومون مقام الأنبياء؛ من حيث الوظيفة أو الداعي.

وبهذا يَظهر لنا أن الحاجة ماسَّةٌ دائمًا للمجددين، كما كانت حاجة البشرية دائمًا ماسَّةً للأنبياء والرسل.. وأن التجديد سنةٌ ماضية وحيويةٌ فاعلة، ما دامت مسيرة البشرية قائمة على التأرجح بين الاهتداء بنور الوحي تارة، والانزلاق في وهدة الشهوات والأهواء تارة أخرى.

كما يظهر أيضًا أن “التجديد” و”المجددون” من أهم معالمِ حيوية الإسلام، ومن العلاماتِ الكبرى المشيرة إلى خلوده، وإلى قدرته على الاستجابة للتحديات، وتلبية حاجات النفس الإنسانية.. وهذا ما يجعل الإسلامَ، ليس مجرد بديل من البدائل، بل هو البديل، كما يقول السفير الألماني المسلم مراد هوفمان.

 


([1]) روى أبو داود، في سننه، كتاب الملاحم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”. وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة”، والألباني في “السلسلة الصحيحة”.

([2]) فقد ذهب ابن حجر إلى أن من يقوم بالتجديد يجوز أن يكون فردًا أو جماعة، مثل معنى (الطائفة) الواردة في حديث: “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ”. فقال: “لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذَكَرَ في (الطائفة) وهو مُتَّجَهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كُلِّهَا في شخص واحد ، إلا أن يُدَّعَى ذلك في عمر بن عبد العزيز؛ فإنه كان القَائِمَ بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وَتَقَدُّمِهِ فيها; ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل؛ فعلى هذا كُلُّ من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا”.

انظر: فتح الباري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، الحديث رقم: (6882).

([3]) “تجديد الفكر الديني في الإسلام”، إقبال، ص: 207، 208، ترجمة الأستاذ محمد يوسف عدس، طبعة مكتبة الإسكندرية، 2010م. وقد أفدت كثيرًا من إضاءات أستاذنا يوسف عدس حول إقبال وفكره وفلسفته؛ في فهم “النص الإقبالي”، وهو نصٌّ شديد التكثيف والتركيز.. رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.. راجع مقاله: “نافذة على فكر محمد إقبال (2- 2)، موقع البديل، 9‏/ 11‏/ 2013م.

([4]) المصدر نفسه، ص: 208.

([5]) “رسالة التوحيد”، محمد عبده، ص: 109، تحقيق د. محمد عمارة، طبعة دار الشروق، ط1، 1994م.