د.عبد المنعم القاسمي الحسني

عرف تاريخ الجزائر الحديث الكثير من الرجال الصادقين العاملين، الذين نذروا أنفسهم لخدمة البلاد ونفع العباد، وقاموا بواجبهم تجاه دينهم ووطنهم، لكن للأسف لا يزال تاريخهم مجهولا ولا نعرف عنه الشيء الكثير. كانوا يعملون ليل نهار، في صمت وفي هدوء، بعيدا عن الأضواء والشهرة، معتمدين في ذلك على الله. ومحاولتنا التعريف بهم قد يُعتبر نوعا من الاعتداء على حياتهم الخاصة، والتدخل فيها، فقد عاشوا العمر كله بعيدا عن الأنظار، محتسبين أمرهم لله وأجرهم وثوابهم على الله.

وقد ترددت كثيرا في الكتابة ولكن رأيت أنه من باب إحقاق الحق وإبراز الحقائق التي تخدم تاريخنا العلمي والثقافي وتاريخ أمتنا العربية الإسلامية، إعطاء كل ذي حق حقه، وإن كانوا لا ينتظرون منا ذلك، ولنرى ما قدم هؤلاء إلى الأمة الجزائرية، ومن هؤلاء الأفذاذ الذين عملوا بتفان وإخلاص وجد ومثابرة في سبيل الدفاع عن الدين ورفعة ألويته عاليا، والحفاظ على مقدسات هذا الشعب الأبي: الشيخ محمد بنعزوز القاسمي الحسني الهاملي.


سيرة.. ومسيرة

هو الإمام الفقيه المالكي، الصوفي الخَلوتي (نسبة إلى الطريقة الخَلوتية)، العالم العامل، الولي الصالح، سلالة العلماء والصالحين وبقية السلف الطاهرين، الأستاذ الفاضل محط الرجال الأفاضل: الشيخ محمد بنعزوز بن المختار القاسمي الحسني الهاملي الشريف، أبو عبد الله، نسبة إلى بلده “الهامل”، القرية التي اشتهرت بمدرستها العلمية المعروفة (زاوية الهامل).

ولد الشيخ محمد بنعزوز عام 1324هـ=1906م ببلدة الهامل، أي في بداية القرن العشرين، وهو ما يمثل بالنسبة لتاريخ البلاد توقف الحركات الثورية، انتهاء المقاومة الشعبية المنظمة وغير المنظمة، وهي فترة عرفت ركودا وجمودا شديدين على جميع المستويات، بل بات المواطن الجزائري البسيط لا يفكّر في شيء إلا في الحصول على قوت يومه.

وفي ظروف الاحتلال المقيت، فتح عينيه على أهوال الحرب العالمية الأولى التي مس أوارها قريته الهامل، وذلك بمشاركة أفراد من القرية في هذه الحرب، وعرف المجتمع الهاملي آنذاك، معاناة شديدة وظروفا صعبة. وكانت زاوية الهامل – التي نشأ بها الشيخ – في هذه الفترة تمثل منارة علم في بيداء الجهل والظلام، في عهد احتلال بغيض، أطبق على النفوس والأرواح والعقول بكلكله، فقيّدها، وضرب على العلم والمعرفة بأسوار من حديد، جعلت الشعب الجزائري، لا ينعم بها و لا يعرف لها سبيلا، فقد حاول الاحتلال القضاء على كل مظاهر الشخصية العربية الإسلامية، من الدين، العلم، العادات التقاليد.. الخ

ظهر نبوغ الشيخ مبكرا، إذ أتم حفظ القرآن الكريم وأتقن تجويده ورسمه ولم يتم العقد الأول من عمره، ونشأ على حب طلب العلم والحرص عليه. وكان أول شيوخه في العلم شيخ الجماعة بالزاوية القاسمية الشيخ العلاَّمة سيدي محمد بن عبد الرحمن الدِّيسي، كما تتلمذ على الشيخين أبو القاسم القاسمي وأحمد القاسمي.

 وقد كان الشيخ بنعزوز من ألمع طلبة الزاوية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتمكن من العلوم الفقهية والعلوم اللغوية، والحديث والتفسير – وقد كتب فيه فيما بعد -، وتدرج في سلم التعليم إلى أن صار أستاذا رفقة شيوخه الذين تولوا تعليمه من قبل، وهم الشيخ أبو القاسم، الشيخ أحمد القاسمي، الشيخ المكي، وكان عمره إذ ذاك 18 سنة.

وفي سنة 1345 هـ=1926م انتقل إلى جامع الزيتونة لمواصلة رحلته العلمية، فألفى المستوى التعليمي فيها هو نفسه الموجود بالهامل، وبالزيتونة تلقى علومه على أيدي الأساتذة الأجلاء منهم: الشيخ محمد الزغواني المالكي، الشيخ عثمان الخوجة الحنفي، والشيخ معاوية التميمي.. وغيرهم من مشايخ الزيتونة الفضلاء.

في صائفة 1346 هـ=1927، عاد إلى زاوية الهامل، وتولى التدريس بها رفقة جمع من الأساتذة الآخرين: الشيخ بن السنوسي الديسي، الشيخ أحمد بن الأخضر الشريف، الشيخ الحاج عبد العزيز بن أحمد الفاطمي، وكان يبدأ يومه العلمي بعد صلاة الصبح، فيشرع في تدريس علوم القرآن: من تفسير معانيه، وأسباب النزول، ومعه علم الحديث رواية ودراية، وإذا طلعت الشمس يبدأ بدروس التوحيد والعقيدة، واللغة والنحو، وبعد العصر يُدرّس “السنوسي” و”الحساب” و”الجوهر المكنون”.

إلا أن الذي اشتهر به الشيخ هو تخصصه في الفقه المالكي، وعكوفه على تدريس كتبه، كمختصر خليل وشروحه، وكان درسه الفقهي نموذجيا، لكونه لا يعتمد على الحفظ وحده، بل كان يرجع إلى المصادر والمراجع محاولا استخراج الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة، مستنبطا محاورا مناظرا، مما جعل حلقته تتسع أكثر فأكثر، عاما بعد عام.

وعرفت الزاوية في هذا العهد – ما بين الحربين العالميتين – تطورات كثيرة على مستويات عدة، وذلك بتأثير الظروف السياسية والاقتصادية التي عرفتها الجزائر فيما بين الحربين، وشهدت حركة علمية وثقافية نشطة، حيث كانت مركزا هاما من مراكز العلم والثقافة ومجمعا لعلماء من المشرق والمغرب، وناديا يلتقي فيه كثير من الطبقة المثقفة والمتعلمة في تلك الفترة، شهدت قدوم العديد من العلماء من الجزائر ومن خارجها: عبد الحي الكتاني، الذي كان دائم التردد على الزاوية، الشيخ أحمد الأمين، محمد المدني بن أحمد الطولقي، أحمد بن المأمون البلغيثي، الشيخ محمد الحجوي (صاحب “الفكر السامي” تولى وزارة المعارف بالمغرب، الشيخ عمر برّي (أديب الحجاز وشاعر المدينة المنورة)، الحسين بن المفتي قاضي قفصة بتونس، الشيخ الحسين بن أحمد البوزيدي مدرس بالأزهر الشريف (مصر)، الشيخ محمد العاصمي، وهو المفتي الحنفي الذي درس بالزاوية وعلى يد الشيخ محمد بن أبي القاسم، وتولى الإفتاء بالعاصمة، نعيم النعيمي…. وغيرهم كثيرون من أهل العلم والمعرفة.

ولعل من أهم الأحداث التي عرفتها الساحة الثقافية هو تأسيس “جمعية العلماء المسلمين”، وقد شارك في تأسيسها بنادي الترقي بالجزائر، وكان من الأعضاء المؤسسين لها، وإن انسحب منها فيما بعد لأسباب شخصية.

ومـرَّ عقد الثلاثينيات والرجل مُكبٌّ على تدريس العلم الشريف بزاوية الهامل،  وعُرض عليه في الأربعينات من القرن العشرين تولي منصب الإفتاء بالجزائر العاصمة بعد شغوره، فرفض وفضّل البقاء بمسقط رأسه الهامل، مواصلا مسيرة الآباء والأجداد، مخلصا عمله لله وحده، وذلك بالرغم من اعتلال صحته، واضطراره الدائم إلى الذهاب إلى الجزائر العاصمة للعلاج هناك تحت إشراف طبيب فرنسي.

حوَّل مسكنه بزاوية الهامل، إلى نادٍ علمي فكري ثقافي تجتمع فيه نخبة من العلماء والأساتذة وطلبة العلم، وهي تقريبا نفس الشخصيات التي كانت تتردد على الزاوية.

كما اهتم في هذه الفترة بجمع الكتب والمخطوطات، وكانت الجزائر تشهد حركة في بيع الكتب والمخطوطات، فأقدم على شراء الكثير منها من أبناء العلماء الذين وضعوا هذه الكنوز للبيع، وكان يبذل الغالي والنفيس في سبيل الحصول على مخطوطة أو كتاب هام.

وقد وصفته إحدى التقارير الأمنية الفرنسية في هذه الفترة (1952م) بأنه: “من مشائخ زاوية الهامل وأعيانها، يتولى التدريس بها الآن، على ثقافة تقليدية عالية، صاحب ثروة متوسطة، متفهم للقضية الفرنسية – وذلك دأبها حينما تريد خلط الأوراق – لا يتقن اللغة الفرنسية”.

ولما قامت الثورة التحريرية المباركة في نوفمبر 1954 عرضت على الشيخ تولي القضاء والفصل في النزاعات والخصومات بين الناس، وبالرغم من مضايقات الاحتلال الفرنسي إلا أن الشيخ صمم على بلوغ أهدافه وتنوير الشعب وإبراز حقائق الاستعمار والدعوة إلى التمسك بالدين الحنيف والمبادئ الإسلامية والعادات والتقاليد الأصيلة، ومحاربة كل من يدعو إلى التفرقة والاندماج، وفي هذا ما فيه من الجهاد والكفاح.

وبعد الاستقلال، طلب منه سكان مدينة عين وسارة وأعيانها الانتقال إليهم، وتولي التوجيه والإرشاد بها، على أن يوفروا له كل متطلبات الحياة الكريمة، وألحوا على طلبهم وبكل أدب واحترام، فانتقل إليها، وقضى سنواته الأولى بها مدرسا لبعض العلوم من فقه وتفسير وحديث، لمختلف طبقات الشعب، وفي السنوات الأخيرة لمّا شعر بنوع من الإعياء، قصر التدريس على بعض الأئمة والأساتذة في مكتبته بمنزله، كما تولى مهمة الإفتاء والتي كان يمتنع عنها في السابق، لكن أصبحت في حقه بهذه المدينة فرض عين، مما جعله يفتح أبواب منزله للمستفتين، ورجال القضاء والقانون.

وفي هذه الفترة (فترة إقامته بمدينة عين وسارة) زار بيت الله الحرام مرتين حاجا، وكان يقضي شهور الصيف بمدينة الجلفة، حيث يستقبله أهلها ويقضي معهم فترة الصيف في تدارس علم وبحث في أمور فقهية واستفتاء عن مسائل لم يجدوا لها جوابا، وظل الشيخ على هذه الوتيرة إلى حين وفاته رحمة الله عليه.

توفي الشيخ – رحمه الله – ليلة 21 رمضان 1404 هـ الموافق لـ 21 جوان 1984م بمدينة البليدة بعد مرض ألزمه الفراش مدة طويلة، ودفن بمسقط رأسه الهامل، بجوار أستاذه الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي بمقبرة الأسرة القاسمية، في يوم مشهود، وشيعه جمع غفير في موكب مهيب غشيه حزن وأسى على فقد علم بارز من أعلام الجزائر وأبَّـنه غير واحد.

ولعل من أبرز ما تميز به الرجل:

أنه عاش حياته كلها زاهدا متقشفا عازفا عن مظاهر الغنى والترف، مقتصرا على البسيط من حاجات العيش التي تضمن كرامة الإنسان وتحافظ على هيبته ووقاره، فقد كان يعيش في منزل متواضع، ويأكل من ريع بستانه الذي ورثه عن والده، ولم يكن ليزيد عن ذلك شيئا، بل كان يدفع بالزائد عن حاجته إلى الفقراء والمساكين.

كان يدعو إلى توحيد الصفوف وعدم التفرق والتشرذم، فقد جاء في إحدى فتاواه ما يلي: “…والدين يأمر المسلمين بالوحدة لا بالتفرّق، وبالائتلاف لا بالاختلاف. ومعاذ الله أن أكون من دعاة التفريق والتعصّب والتحزّب والتمالؤ، لأنّي أعلم أنّها ممّا يغضب الله جلّ جلاله ويغضب رسوله عليه الصلاة والسلام”. فالتصوف الذي تعلمه الشيخ – وعلمه فيما بعد لتلامذته ومريديه – هو أنه تربية للنفس ونور في القلب يؤدي إلى حركة حياة وإلى عمل مستمر، من أجل إصلاح هذه الأمة المسلمة.

 

عاشق الكتب والمخطوطات

ولا يمكننا الحديث عن الشيخ بن عزوز دون الحديث عن مكتبته العامرة الزاخرة بمئات المخطوطات وآلاف المطبوعات، والتي عرفت شهرة لدى الباحثين وطلاب المعرفة، حيث ضمت حوالي 700 مخطوط، في مختلف أنواع المعرفة، أغلبها في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وأصول، نظرا لتخصص الشيخ فيها، وأكثر من ثلاثة آلاف كتاب مطبوع، إلا أن أهميتها ترجع إلى ما احتوته من مخطوطات طبعا.

هذا وإن الحديث عن علاقة الشيخ بالكتاب أمر يدعو إلى الدهشة والغرابة، فلم نسمع عن أحد أحب الكتاب مثل محبة الشيخ له، فقد أفنى حياته في سبيل جمع هذه المكتبة، وقد أوقف عمره كله عليها، وبذل أموالا طائلة في إثرائها والإضافة إليها، حتى أنه كان في بعض الأحيان، يخصص لها من الأموال التي تنفق على الأولاد والعيال، حتى سكنه، حوله مرارا من أجل مكتبته كلما اتسعت كلما اختار لها سكنا أوسع.

وكان من أحب الأوقات لديه هو انصرافه إلى مكتبته، مطالعا ومفتشا وباحثا، ومن علمائنا الذين كان يقرأ لهم كثيرا: الشرباصي، عبد الرحمن الجزيري، صبحي الصالح، الشيخ شلتوت، سليمان دنيا…وغيرهم من العلماء والمفكّرين.

امتلأت جل الكتب بتعليقاته وملاحظاته واستدراكاته، مما لو جمع لكان في ثلاثة مجلدات أو أربع على الأقل، وقد كان أحد الأساتذة أشار عليَّ بأن أجمعها وأدرسها وأقدمها مشروع رسالة دكتوراه، لما تضمنته من آراء وأفكار، وتحليلات عميقة دقيقة حول موضوعات كثيرة ومتنوعة، في الفقه والتاريخ، والفلسفة وعلم الاجتماع، قد نكّون من خلالها صورة عن توجهات القارئ العربي والعالم المثقف في تلك الفترة، إلا أنني رأيت أن ذلك من خصوصيات الرجل، ولا يحق لنا بأي حال من الأحوال أن نتدخل في عالمه الخاص، وجوه المتميز الذي صنعه لنفسه.

تأليف الرجال وتصنيف الكتب

تولى الشيخ بنعزوز التدريس لأكثر من نصف قرن، ومنذ شبابه لم يعرف مهنة أخرى غير العلم والتعليم، وتخرج على يديه كبير من الطلبة والأئمة والفقهاء يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف طالب. ومن أبرز تلامذته: الشيخ عبد الحفيظ القاسمي، الشيخ معمر حاشي، الشيخ خليل القاسمي الحسني، الشيخ محمد الأزهري القاسمي الحسني…

بالرغم من عنايته الشديدة بالكتابة والكتاب، إلا أن الشيخ لم يكن كثير التأليف، ومن مؤلفاته:

  • شرح الصدر بإعراب آي “القطر” (قطر الندى لابن هشام)
  • فهرست موضوعات ومصادر ومراجع “اليواقيت الثمينة في الأشباه والنظائر” لعبد الواحد السجلماسي.
  • قام بتحقيق كتاب ” الكواكب العرفانية والإشراقات الأنسية في شرح القدسية” للحسين الورتيلاني.
  • رسالة مناسك الحج، رسالة التقوى، استعمال جلود الميتة، الزكاة.
  • وله تقييدات في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ على معظم كتبه، لو جمعت كانت في مجلّدين.
  • كما ترك عددا كبيرا من الفتاوى يفوق الثلاثمائة فتوى.