انتشرت في الفترة الأخيرة ظاهرة توظيف الأموال بعيدًا عن الأطر القانونية، حيث تعمل الكيانات العرفية، بعيدًا عن البنوك والاكتتابات التي تنظمها الأسواق المالية. وتظل هذه الكيانات العرفية بعيدة عن الإعلام والقانون متى ظلت متماسكة، فإذا بدأ عقدها في الانفراط، خرجت إلى الإعلام، وبرزت في ساحات المحاكم.

 وفكرة هذه الكيانات الاستثمارية العرفية بسيطة في بنيتها، عفوية في تسويقها، وهي باختصار، تقوم بين طرفين، الطرف الأول ( أصحاب المال)، والطرف الثاني ( التاجر المستثمر) حيث يتم الاتفاق على أن يعطي أصحاب المال أموالهم للتاجر المستثمر، ليستثمره لهم ، ويعطيهم نسبة أو مبلغا مقطوعا يتم الاتفاق عليه، وإذا رغب صاحب المال في سحب أمواله وإنهاء عقد الاستثمار فله ذلك متى أراد، أو حسب مدد زمنية يتم الاتفاق عليها، وغالبًا ما تكون هذه النسبة المعطاة لأصحاب الأموال، أعلى من نسب البنوك حتى يتمكن المستثمر من مزاحمة البنوك في عملها، وحتى يُقبِل أصحاب الأموال على استثمار أموالهم مع هذه الكيانات العرفية، التي تكون ضماناتها أقل من ضمانات البنك بالضرورة.

 أغلب هذه الكيانات الاستثمارية تتوقف بعد حين من الانتظام، حيث يفاجأ أصحاب الأموال فجأة بإخلال التاجر المستثمر في تسليم نسب الأرباح المتفق عليها في مواعيدها، فإذا فكروا في سحب أموالهم، فوجئوا بأن هذا الخيار أيضًا غير متاح؛ لعدم وجود أموال كافية، فيبدأ النزاع يخرج إلى الإعلام والمحاكم.
وأغلب هذه النزاعات تنتهي بحبس ( التاجر المستثمر) وضياع الأموال على أصحابها، هذه الظاهرة التي اصطلح الإعلام المصري مؤخرًا على تسميتها ب ( المستريح) نسبة إلى نَسَبِ أشهر ( التجار المستثمرين) داخل هذه الكيانات العرفية.

لا تهتم هذه الورقة بالتكييف القانوني لهذه الظاهرة، التي تنتهي بحبس ( التاجر المستثمر) بتهمة توظيف الأموال دون غطاء قانوني + تهمة التبديد ؛ لأن ( التاجر المستثمر) يعطي أصحاب الموال ( إيصالات أمانة) كسندات ضامنة لأموالهم، وهذه الإيصالات ينظر إليها القانون باعتبارها جرائم تبديد، يُعاقب عليها بالحبس.
لكن الذي تهتم به هذه الورقة، هو التكييف الشرعي لهذه الظاهرة، للوصول إلى الحكم الشرعي فيها، حتى لا يتحول المظلوم إلى ظالم وهو لا يدري، وحتى لا يخيل الظالم لنفسه أنه مظلوم زورًا وبهتانًا!

 هذا الاسثمار على هذا النحو لا يخرج عن عقدين هما ( المضاربة أو المشاركة) المضاربة تكون إذا لم يكن ( التاجر المستثمر) يملك مالًا، والمشاركة إذا كان ( التاجر المستثمر) يملك مالًا ويدفعه رأسمال إلى ذات المشاريع التي يستثمر فيها أموال المودعين، وعلى كل فالآثار والنتائج على كلا التخريجين متقاربة مالم تكن هي هي .
وحتى يكون هذا الاستثمار صحيحا شرعا، (مضاربة كان أو مشاركة) لا بد له من شروط، أبرزها :

1- النسبة إلى الربح لا إلى رأس المال: أن تكون نسبة الربح المسمَّاة لكل طرف منسوبة إلى الربح لا إلى رأس المال، فلا يجوز أن يتفق مثلا على أن لصاحب المال عن كل ألف (25) جنيها، أو (25%) من الألف.
ولكن الصواب، هو أن يقال مثلا : لصاحب المال (25%) من الربح الذي سوف يظهر، أو أكثر أو أقل. فإذا ظهر ربح اقتسماه بحسب النسبة المتفق عليها، وإذا لم يظهر ربح، ضاع على ( التاجر المستثمر) جهده، وفات على ( صاحب المال) الربح.

2- الخسارة على صاحب المال : اتفق الفقهاء على أن يد ( التاجر المستثمر) ( في المضاربة أو الشركة) يد أمانة، فلا يضمن ما ينشأ من خسارة، بل الخسارة كلها على أرباب الأموال وحدههم، بحسب حصصهم، إلا الخسارة التي تنتج عن تفريط أو إهمال أو تعد. ومعنى ذلك أنه في حالة ( الشركة) يتحمل في الخسارة بمقدار رأسماله فقط.
وهذا شرط مجمع عليه بين الفقهاء، ويمثل علامة فارقة بين الاستثمار الإسلامي والاستثمار الربوي؛ وبسببه تراجعت صيغة ( المضاربة والمشاركة) في البنوك الإسلامية في التمويل مخافة أن تخسر أموالها، وفضلت عوضًا عن ذلك أساليب أقل خطرا.

3 – التفريط والتعدي : في حالة ( التفريط أو الإهمال أو التعدي) يضمن ( التاجر المستثمر) الأموال التي أخذها من الناس، ومن صور التفريط والإهمال ( عدم أخذ رهون ممن يشتري بالآجل مثلا)، وأبرز صور التعدي: أن ينفق ( التاجر المستثمر) الأموال التي جمعها في احتياجاته الشخصية، أو يقضي بها ديونه، ولا يوجهها إلى الاستثمار.
في (هذه الحالات الثلاثة فقط) يضمن ( التاجر المستثمر) الأموال التي أخذها من الناس، أي تصير ديونًا عليه، يتوجب عليه قضاؤها من ماله الخاص – إن كان عنده مال- . لكنه لا يضمن الأرباح الضائعة، هو فقط يضمن الأموال التي جمعها منهم، هذا مع ما يلحقه من إثم التفريط.

4- إثبات التعدي والتقصير والتفريط : ذهب الفقهاء الأربعة إلى أنه في حالة وقوع الخسارة يُصَدَّق قول (التاجر المستثمر) في عدم التعدي أو التفريط، أي أنه لا يُطالب ببينة على صدق دعواه، وهذا مقتضى وصف يده بأنها ( يد أمانة). وهذا ما ضاعف مخاوف البنوك الإسلامية من التمويل بأسلوب ( المضاربة والمشاركة)
وأقصى ما يمكن التحسب له في هذا الصدد، هو الحل الذي قدمه بعض الفقهاء المعاصرين، مثل الدكتور يوسف الشبيلي، وهو أن يُطالَب (التاجر المستثمر) بالبينة على براءته من تهمة التعدي والتقصير، بدلا من أن تُقبل دعواه في ذلك دون بينة، فإذا عجز عن تقديم بينة عُدت الخسارة ناتجة عن التعدي أو التقصير، وإذا كان صادقا في دعواه إلا أنه عجز عن إثبات براءته، كان عجزه في ذاته تقصيرا.

5 -لعبة الكراسي الموسيقية : من صور التعدي التي تسفر عنها القرائن داخل هذه الكيانات الاستثمارية، هو أن ينفق (التاجر المستثمر) الأموال التي يجمعها على احتياجاته الشخصية، ويوجه بعضها إلى مشاريع حقيقية، ويوزع بعضها على أصحاب الأموال باعتبارها أرباحًا، وهي ليست كذلك في الحقيقة، ويجعل القسم الأخير تحوطًا، يعطي منه مَن يطلب سحب أمواله، فيكون مآل هذه الأموال في الحقيقة قد توزعت على هذه الاتجاهات الأربعة، وهذا ما يفسر سبب العثور عليهم في حالة الإفلاس، حيث تكون أموال الناس توزعت على بعضهم، ذلك البعض الذي كان يسحب الأرباح الوهمية، وذلك البعض الذي كان يسترد أمواله بعد حين، وتوزعت على احتياجات (التاجر المستثمر) الشخصية، التي ربما تكون عالية جدًّا.

ويكون سعيد الحظ هو من استرد أمواله قبل حالة التعثر، فيظفر بأمواله مع الأرباح التي حصل عليها، ويكون أبأس القوم هو من كان يراكم أرباحه عند المستثمر لتدخل دورة استثمارية جديدة، فيكون قد خسر جميع أمواله لصالح الجهات السابقة، ويليه في البؤس الزبائن الجدد، الذين التحقوا بهذه الكيانات قبل تهدلها بوقت قصير، فيما يمثل الجميع لعبة أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، أو لعبة ( الشايب)!

6- استثمار فاسد شرعًا : تفيد القرائن أن هذه الكيانات لا تحافظ على هذه الشروط السابقة لضمان صحة المضاربة والمشاركة، فأكثرها يحدد أرباحًا منسوبة إلى رأس المال، أو مبالغ مقطوعة، أو يترك نسب توزيع الأرباح مجهولة، أو يشترط الضمان على (التاجر المستثمر) وهذا كله يجعل الاستثمار ( استثمارا فاسدا) على حد تعبير الفقهاء. وقد اختارت هيئة المعايير الشرعية في هذه الحالة أن تكون الأرباح كلها لأصحاب المال، ويكون (للتاجر المستثمر) أجرة المثل.

7- الحبس:  إذا أثبتت الأدلة أن (التاجر المستثمر) كان ( متعديا أو مقصرًا) فهذا يوجب عليه رد الأموال التي جمعها ، فإذا كان قادرًا على السداد، وجب عليه السداد، وإن امتنع عن السداد كان مماطلا، والمماطل يجوز حبسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

8-إذا وُجد بين الإعسار والإفلاس: وهذه أغلب الحالات التي يعثر المستثمرون داخل هذه الكيانات الاستثمارية عليها، فهذه أحكام الإعسار والإفلاس كما قررها مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

نص القرار : إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرر ما يأتي:

أولاً: تعريف الإعسار والمدين المعسر:

(1) مع مراعاة ما ورد في الفقرة (سابعاً) من قرار المجمع ذي الرقم: 64 (2/7) بشأن ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار، فإن الإعسار هو: وصف عارض يلحق بالشخص يكون معه عاجزاً عن القيام بنفقاته الواجبة وسداد ديونه. والمعسر هو من لحق به هذا الوصف.

(2) ضابط الإفلاس: هو عدم كفاية أموال المدين لسداد ما عليه من ديون. والمفلس هو من اتصف بهذا الوصف.

ثانياً: أبرز الفروق بين الإعسار والإفلاس عند الفقهاء:

(1) الإعسار قد يكون مسبوقاً بحالة اليسار وقد لا يكون مسبوقاً بها، بخلاف الإفلاس فإنه لا يتحقق إلا إذا كان مسبوقاً بحالة اليسار.

(2) يُحجر على المفلس بعد الحكم بإفلاسه، أما المعسر فإنه يُنظر إلى حين ميسرة، إذا أثبت إعساره بطرق معتبرة شرعاً، لقوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [ البقرة: 280 ].

(3) لا يحكم القاضي بحبس المعسر عندما يثبت إعساره، أما المفلس فإنه يُحبس تعزيراً في حالة الاحتيال أو التدليس أو الإهمال والتقصير.

(4) الإعسار قد يكون بِدَيْنٍ أو حق شرعي كالنفقة، بخلاف الإفلاس فلا يكون إلا بِدَيْن.

ثالثاً: أحكام الإفلاس في الفقه الإسلامي:

(1) منع المفلس من التصرف في أمواله بما يضر الدائنين،بأي نوع من أنواع التصرفات الضارة بهم. ويكون منع المفلس من التصرف وإنهاؤه بحكم القاضي.

(2) جواز منع المفلس من السفر، إذا كان السفر يؤدي إلى ضرر ظاهر بحقوق الدائنين.

(3) سقوط آجال الديون المؤجلة التي على المفلس.

(4) قيام القاضي المختص ببيــع أموال المفلس، بما هو أصلح وأنفع للدائـن والمديـن وقسـمة ثمنها، وإذا ظهر للمفلس مال جديد جاز للدائنين مطالبته بالوفاء بما هو باق من ديونهم.

(5) حق الدائن في اســـترداد عين ماله الذي يجده ضمن أموال المفلس، إذا كان باقيا على حاله، ولم يستوف ثمنه.


-انظر: بدائع الصنائع، الكاساني (6/ 87)، والشرح الكبير، الدردير (3/ 523)، والمجموع، النووي (14/ 383)، والمغني، ابن قدامة (7/ 184) والمحلى، ابن حزم (9/ 118)
– وقد أخذ بهذا الرأي -أي جواز نقل عبء إثبات عدم التعدي والتفريط إلى الأمين-مؤتمر المصارف الإسلامية المنعقد بالكويت عام 2009. لكن هذا يحتاج أن يتم الاتفاق عليه ابتداء.

– كتاب المعايير ( ص223).