نشأت في تاريخ الإسلام فرق إسلامية تباينت فيما بينها حول مسائل عقدية وأصولية، فإنهم وإن كانوا جميعا يعبدون الله الواحد الأحد، إلا أنهم اختلفوا في صفات هذا الإله المعبود، وفيما يجوز في حقه، وفيما يجب له، وفي مفهوم الإيمان، وفي ضوابط الخروج منه، وفي مشاهد كثيرة لليوم الآخر، أو في عالم الغيب عمومًا.

وحديثنا هنا ليس عن المذاهب الإسلامية داخل المدرسة السنية، ولكن حديثنا عن الفرق الإسلامية داخل إطار ( الإسلام)، فحديثنا عن فرقٍ مثل ( الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، والأشعرية ، والماتريدية…)

فلماذا تباينت هذه الفرق في فهمها وتصورها عن الإسلام مع أن المنهج كان واحدًا.

نحاول في هذه المقالة الإجابة عن هذا السؤال، وهذه المقالة لا تُعنى بنقد أفكار الفرق الإسلامية، والحكم بينها، ولكن الذي تُعنى به هذه المقالة هو الإجابة عن سبب هذا التباين برغم وَحدة المنهج؟

قد يذهب بعض علماء الاجتماع أن السبب في ذلك هو الاختلاف في بعض الآراء السياسية، أو العقدية، أما السياسية، كاختلافهم حول الأحق بالخلافة ( هل هو سيدنا أبو بكر، أو سيدنا علي بن أبي طالب) وأما العقدية، فاختلافهم حول مفهوم الإيمان.

لكن الحق أن هذه الرؤى هي مظاهر لتلك المدارس، حتى وإن كانت بعض هذه الرؤى هي حجر الزاوية ، الذي تكونت عنده هذه المدارس؛ لكنه يبقى السؤال : ما سبب هذا التباين حول هذه الرؤية أو تلك مع أن المرجع واحد؟

المعرفة ليست منهجا فحسب

والإجابة على هذا السؤال تتضح إذا علمنا أن المعرفة الإنسانية ليست منهجا فحسب!

نعم ، إنها ( موضوع + منهج)؛ وذلك لأن أجهزة الإدراك والمعرفة البشرية عندما تبحث وتدرس وتستنبط فإنها تكون بإزاء أمرين لا أمر واحد.

الأول : هو الموضوع، وهو مادة البحث ومصدر المعرفة.

والثاني : هو المنهج، وهو السبيل الفكري، والخطوات الذهنية التي يتبعها فكر الباحث في مساره بقصد تحصيل المعرفة.

وبناء على ذلك؛ فإن هذه الفرق كانت تجتمع على الموضوع دون المنهج، فقد كانت تجتمع على الرجوع إلى مصدر المعرفة ( القرآن والسنة)

أي أن اختلاف الوسائل والمناهج التي بدأ مفكرو الفرق بحثهم في القرآن والسنة من خلالها أدى بهم في النهاية إلى التباعد والتناقض في نتائج أبحاثهم، مما جعلهم فرقا وأحزابا.

فما هي المناهج المختلفة التي اعتمدتها كل فرقة على حدة:

أولا : منهجية الرجوع إلى القرآن كله أو إلى بعضه

بعض الفرق كانت حينما تظفر بآية أو عدة آيات، وهذه الآيات تقرر حقيقة ما لمفهوم ما، كانت هذه الفرق تسارع إلى التزام هذا التقرير، دون أن تنتظر  حديث سائر الآيات عن ذالك المفهوم، فإذا أحست هذه الفرقة بحديث مختلف لبعض الآيات عن هذه التقرير الذي التزمته، فإنها تؤوله؛ كي لا يصبح مخالفا للعقيدة التي استقر في وجدانها وعقولها.

فالمدرسة الجبرية نظرت إلى مثل قول الله تعالى :  {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وقوله تعالى : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فخرجوا منها بأنه ليس للإنسان مشيئة في فعله وأنه مثل الريشة في الهواء، وأن المشيئة لله وحده.

والمدرسة القدرية نظرت إلى مثل قول الله تعالى :   {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55]  وما يشبهها فخرجوا بأن الله لا يتدخل في أعمال البشر، بل هم الذين يخلقونها كما يريدون.

والعجيب أن هذا المنهج سرى حتى على الآيات المتقاربة، فانظر مثلا إلى قوله تعالى:  { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الإنسان: 29، 31]  تجد أن القدرية كونت منهجها عن القدر بناء على الآية الأولى فقط { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) حيث تثبت الآية المشيئة للإنسان. متغافلة عن الآية التي تليها :” وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ” وفي المقابل نجد أن المدرسة الجبرية يتمسكون بالآية الثانية، ويتغافلون عن الأولى.

فالمنهج ، أو الإجراءات التي ستبحث بها في القرآن، سوف تحدد النتيجة التي سوف تخرج بها.

ثانيا:  الاعتقاد قبل الاستدلال

بدأت بعض الفرق الإسلامية رحلة البحث في القرآن وعقولهم مسكونة مسبقا ببعض الأفكار والنظريات، وكان غرضهم من البحث في القرآن تدعيم هذه الأفكار ، وليس اختبارها، سواء أكان مصدر هذه الأفكار من عندياتهم، أو من فلسفات وثقافات أجنبية عن الإسلام، ومثل هذا العقل المتشبع بالمقررات المعرفية، لا يسلم نفسه للقرآن، وبالتالي فلا ينتفع به، وإذا وجد آية تصطدم مع مقرراته المعرفية، قام بتأويلها، مهما كان هذا التأويل متعسفا أو بعيدا؛ ليحافظ على مسلماته المعرفية، فالمشكلة هنا ليست في  قلة النصوص أو عدم صراحة دلالتها، ولكن المشكلة في منهج التعامل مع القرآن.

ثالثًا :  التطرف في رد الأفكار

الخبرة الإنسانية كشفت عن أن الإنسان حينما يقف على خطأ فكرة ما، فإنه يعتقد أن الحق في الفكرة المقابلة لها تمامًا.

والذين درسوا الفلسفة يدركون إلى أي حد ينطبق هذا القول على تاريخها، حتى  إننا نستطيع أن نرى مسار العقل اليوناني وانتقاله في تفسيره للوجود من اعتماده على مبدأ التغير إلى الثبات، ومن التعدد إلى الوَحدة، ومن المادية المحضة إلى التصورية الصرفة، ومن الجزئية إلى الكلية، ومن إنكار القدر والعناية الإلهية للعالم إلى الإيمان بالقدر الصارم الذي يخضع له كل شيء حتى الإله نفسه، وهكذا حتى انتهت الفلسفة اليونانية على غير اتفاق، وكذلك كل الفلسفات.

وفي العصر الحديث حينما ثارت أوروبا على الثيوقراطية لاذت بالفكرة المقابلة تمامًا ( العلمانية) ورأت أنها هي الصواب، وجرب العالم الاشتراكية، فلما فشلت اتجه إلى الفكرة المقابلة تمامًا ( الرأسمالية) ورأى أنها هي الصواب، وها هو يدرك الآن بعد تجربة الفكرتين المتقابلتين أن الحل يكمن في نتاج ثالث مهجن منهما.

وقد أصيبت الفرق الإسلامية بهذه الحدية في الأفكار، فحينما ظهرت فرق الخوارج التي انشقت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغالى بعضهم حتى قال بكفره، تبع ذلك ظهور الشيعة الذين تشيعوا له، وغالى بعضهم حتى ذهبوا إلى تأليهه، أو تفضيله على سائر الصحابة، والحقيقة أنه ليس هو بكافر ولا هو بإله، ولا أفضل من أبي بكر رضي الله عنه.

ومثال آخر،  حينما تفشى القول بالجبر في عهد بني أمية، حيث أخذ الناس يتعللون ويحتجون عن معاصيهم بالقدر الإلهي المكتوب، دفع هذا تابعيًّا صدوقا مثل معبد الجهني إلى مقاومة هذا الفكر، فقال : ” لا قَدَرَ، والأمر أُنُف” فأنكر القدر تماما.[ القضاء والقدر في الإسلام (1/74)]

رابعا : ليس كل من يقرأ القرآن يهتدي به

العمل الذي لا تصحبه نية خالصة لله، يرده الله على صاحبه ولا يقبله، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110]

والبحث في القرآن عبادة من أجل العبادات إن خلصت فيه النية لابتغاء الحق والخير،  فإخلاص النية شرط لازم للاستهداء بالقرآن.

يقول تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26، 27]

والآية تدل على أن نقض العهد والميثاق، وأن معصية الله تعالى والإفساد في الأرض، ينتهي بقارئ القرآن  والباحث فيه إلى الضلال.

فالتعامل مع القرآن الكريم  لا يكون من خلال العقل أو الفهم أو أجهزة الإدراك البشرية فقط دون الإرادة، بل إن الإرادة الإنسانية المختارة تعتبر عاملاً حاسمًا في تقبل الحق والهدى والخير النازل فيه، أو الصرف عنه.

فقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] يدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء المكذبين والكافرين بالحق لا يفعلون ذلك بسبب نقص في المعرفة أو بعد عقلي عن الحق، وإنما بإرادتهم يكذبون جحودًا ونكرانًا وإصرارًا على الهوى، وحرصًا على الدنيا؛ إذن فالعلة في كفرهم وتكذيبهم هي إرادتهم الحرة، وليس قصورًا في إدارك الحقيقة والحق.

فليس كل من يقرأ القرآن يهتدي به، بل هناك من الناس من يضله الله به، فالناس يقرأون القرآن، فيهتدي به البعض، ويضل به آخرون. قال تعالى : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82]، وقال تعالى : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورً} [الإسراء: 45، 46].