مرض الإقتلاع في المجتمعات الإنسانية : قبل الحديث عن الاقتلاع لابد أن نعرف التجذر عند سيمون فايل وإن كانت لم تضع تعريفا شاملا لمفهوم التجذر إذ تقول : “يكون الكائن الإنساني جذر من خلال مشاركته الحقيقية والفاعلة والطبيعية في الوجود الخاص بجماعة تحتفظ على بعض كنوز الماضي وهواجس المستقبل حية”[1] ، بمعنى أن الإقتلاع هو تقطيع الجذور وتدمير للتراث ، هو مرض من أمراض المجتمعات البشرية.

تذكر سيمون أسباب هذا المرض منها الحروب والغزو والتهجير “يكون الإقتلاع كلما كان هناك غزو عسكري ويكون الإقتلاع في أدنى درجاته عندما يكون الغزاة مهاجرين ويستقرون في البلد المغزو ويختلطون بالسكان ويتجذرون بأنفسهم كانت تلك حالة الهيلينين في اليونان وحتى بدون غزو عسكري يمكن لسلطة المال والسيطرة الإقتصادية أن تفرضا تأثيرا أجنبيا إلى درجة التسيب بمرض الإقتلاع”[2]

ونجد أسباب هذا المرض الذي ينخر جسد المجتمع من الداخل منها المال والأنظمة المستبدة كل هذه الأسباب تروم إلى القضاء على الجذور، من أنماط الإقتلاع تذكر سيمون اقتلاع العمال: بما أن سيمون عملت في مصانع فرنسا أي أنها عاشت بذلك مأساة العامل الذي يتحول إلى عبد همه الوحيد تحقيق الربح وبذلك يصبح مرض الإقتلاع أكثر حدة “العمال على الرغم أنهم يظلون جغرافياً في مكانهم إلا أنهم معنويا مقتلعين ومنفيين “[3] فارتباط العامل بعمله ليس لأجل العمل وإنما الأجر الذي يناله مقابل عمله  فيقتلع من جذوره وعوامل إقتلاع العمال هما المال والتثقيف لأن ثقافة اليوم أكثر برغماتية متجهة نحو التكنولوجيا ويطبعها التخصص لا التكامل فهي مجردة من التواصل والإنفتاح مع العالم الآخر ،ثقافة مفصولة عن التراث،فالتعلم ليس من أجل التعلم بل للحصول على شهادة أو وظيفة.

تقدم سيمون نماذج عديدة عن الاقتلاع كان العبريون عبيدا هاربين ثم أبادوا جميع سكان فلسطين أو استعبدوهم وكان الألمان أيضا حين سيطر عليهم هتلر يرددون أمة من البوليتارين الكادحين أي أمة من المقتلعين، وكذلك سقوط فرنسا المباغت أوضح أنها كانت مقتلعة وتقدم مثالا عن ذلك فالشجرة التي تكون جميع جذورها منخورة تسقط عند أول صدمة لها”[4].

دعت سيمون إلى العودة إلى التراث وأن نمتثله في سلوكنا فالماضي هو هوية النفس البشرية تقول “نحن لا نمتلك سوى كنوز الماضي ونهضمها ونتمثلها ونخلقها من جديد،ليس هناك من بين حاجات النفس البشرية حاجة أكثر حيوية من الماضي “.[5]

تدمير الماضي هو أكبر جرم في التاريخ وهذا مانشهده من خلال الحملات الإستعمارية الأوروبية الوحشية والإستعمار الفرنسي للجزائر نموذجا على ذلك وأفعاله الإقتلاعية لهوية الشعب الجزائري سواء كان الإقتلاع على المسوى الثقافي أو الديني أو الإجتماعي فكانت غايته الإقتلاع التام.

إعادة التجذر النفسي للعمال : ترى سيمون علاج هذا الشقاء لا يكون على المستوى القانوني لذا تضع حلولا لهذه الأزمة -لا بد تغيير نظام الاهتمام خلال ساعات العمل وتغيير طبيعة الحوافز التي تدفع إلى التغلب على الكسل والإرهاق (حوافز اليوم  الخوف والفلوس )- تغيير الفصل التام لحياة العمل عن الحياة العائلية – وتغيير عدم تمكن العمال أينما كانوا من المشاركة بالفكر والمشاعر في مجمل عمل الشركة وتغيير الجهل التام أحيانا بقيمة الأشياء التي يصنعونها وبمنفعتها الإجتماعية ، تلغى المصانع الكبيرة ، وكل عامل له الملكية الثلاثية آلة ومنزل وأرض تقدمها الدولة عند الزواج -الثقافة العمالية لعلاج ذلك القيام بجهد الترجمة يعبر عنها في كمالها بواسطة لغة تؤثر في القلب والشرط اللازم للثقافة العمالية هو مزيج من المثقفين ومن العمال .

إعادة التجذر النفسي للفلاحين : اقتلاع الفلاحين الذين يعيشون حالة قطيعة مع حياتهم الماضية تقول سيمون لأن ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية هو أن يزرع الأرض أناس يشعرون بحالة الاقتلاع في حياتهم.

تأخذ الحاجة إلى تجذرعند الفلاحين شكل عطش للملكية ، يجب الإتصال التام الأول للفلاح الصغير في سن الرابعة عشر لهذه النشوة الأولى أن تكرس بوليمة تدخلها إلى الأبد في أعماق النفس- كما يجب إرواء العطش للفلاح الشاب بالسفر ولابد أن تسهل لجميع الفلاحين إمكانية السفر دون إنفاق المال ليس في المدن بل الأرياف – يمكن إضافة أعمال تربوية وتثقيفية للفلاحين، وأن يكون الهدف من التثقيف في القرى زيادة رهافة الإحساس بجمال الطبيعة حيث اكتشف السياح أن الفلاحين لا يأبهون بمناظر الطبيعة لأنهم عملهم الشاق لا يترك لهم مجالا للتمتع بروائع الطبيعة والشعور بالغربة تجاه الفكر الإنساني .

الدين والبحث عن المعنى : أو التجذر الروحي

   تسوغ سيمون رؤية دينية كونية متجذرة وذلك بربط الدين بكل فعاليات الحياة حتى في مجال التربية “إننا نسبب أذى لطفل عندما نربيه على مسيحية ضيقة تعيقه عن أن  يصبح قادرا على رؤية كنوز الذهب الخالص في الحضارات الغير المسيحية والتربية العلمانية “[6] فكانت رسالة سيمون لمربي المستقبل والأساتذة أن الدين متجذر في كل بقاع الأرض وفي كل زمان،وأن الدين “دور مهيمن في تطويرالثقافة و الفكر والحضارة البشرية ،إن التثقيف الذي لا يتطرق للدين أبدا تثقيف عبثي”[7] وأن يطلع الأطفال على مقاطع من الكتاب المقدس “ولكل مدرس حرية الخيار في أن يكلم الأطفال ليس فقط عن المسيحية بل يكلمهم أيضا عن أي تيار فكر ديني حقيقي آخر ويكون الفكر الديني حقيقيا عندما يكون عالميا في توجهه” [8]

كما ربطت سيمون العمل بالروحانية بدلا أن يكون ضربا من السجن “وبدلا أن يكون ضربا من السجن يصبح تواصلا مع هذا العالم ومع العالم الآخر “[9] وقدم مثالا عن الفلاح وهو في عمله أن يبذر أرضه ويذكر كلمات في أعماقه الجوانية  ببعض التشبيهات المسيح مثال الزرع هو كلام الله “والآلية التي من خلالها تصل الحبة إلى السطح الأرض باستهلاكها لنفسها ومساعدة الجراثيم …فالتشبيه الذي يجعل آليات هذا العالم مرآة الآليات عالم الماورائيات “[10]

وبذلك تتأسس كرامة العمل إذا ولجنا في عمق الأشياء فكل كرامة لابد أن يكون لها جذر روحي بفلسفتها الروحانية.

تؤكد سيمون العلاقة المتواشجة بين هذا العالم والعالم آخر وأن يكونا حاضرين بجمالهما ،فتمزق العالم اليوم هو فقدان هذا التوازن وطغيان التطور المادي وسيطرة  التقنية  التي جعلت الإنسان مجرد آلة هذا ما أشار إليه إريك فروم عن الإنسان المستلب “فالركن المخصص اليوم في البيت لجهاز التلفزة أو للحاسوب أو لأي آلة تيقنولوجية أخرى أخذ المكان الذي كان في السابق مخصصا للرموز الروحية في الكثير من الثقافات والحضارات “[11] فلكي نعالج هذه الأزمة أن نثري  الروحانية  في المجال نفسه أي في مجال العمل فالحضارة التي نحن فيها في تلاشي و على اقتلاع تام لذا لابد من روحانية العمل من أجل تجذر الإنسان في العالم.

التجذر للخروج من أزمة الإقتلاع نحو حضارة إنسانية عالمية  

    تطرح سيمون العوائق الأربعة لتأسيس حضارة إنسانية أولا مفهومنا الخاطئ عن العظمة ، ثانيا انحطاط الشعور بالعدالة ،ثالثا عبادتنا للمال ،رابعا  غياب الإلهام الديني فينا كما تؤكد أن العظمة هو العيب الأخطر فمفهوم العظمة هو المفهوم نفسه الذي ألهم حياة هتلر برمتها ومن شوه مفهوم العظمة هم من يمتلكون سلطة القلم في الفكر فنقلو لنا مفاهيم خاطئة عن العظمة لذا لابد التفرقة بين العظمة المزيفة والعظمة الحقيقية تقول “لابد التمييز بين العظمة الحقيقية من العظمة المزيفة ومنح الحب للعظمة الأولى فقط ،العظمة الحقيقية هي الثمرة الصالحة التي تنمو على الشجرة الصالحة والشجرة الصالحة هي استعداد النفس القريبة من القداسة “[12]

وهذه العظمة المزيفة لا تحكم التاريخ فحسب بل مختلف العلوم الآداب والفنون>

خاتمة: صفوة القول الحق أن قراءة كتاب التجذر لسيمون فايل هو الكتاب الفريد  من كتبها الذي تضمن القيم العالمية والواجبات التي يجب التخلق بها اتجاه الكائن الإنساني ،فكانت فلسفتها أخلاقية وروحانية كما يمكن إدراج فلسفتها في فلسفة الفعل كونها ربطت الفكر والعمل كونهما متلازمان ، وإضفاء الروحانية على العمل فلم تبقى فلسفتها تحلق في السماء مثل بعض الفلاسفة بل أنزلت فلسفتها إلى الواقع لتعالج العلل والأمراض التي تنخر جسد وروح هذه الحضارة سواء من باطنها أوقشورها البرانية، تناولت العلم والدين والسياسة والحروب والسلام لتختم رسالتها الفكرية  بالتصوف لذا أكدت على التوازن بين العالم المادي والعالم الروحاني .


  [1] المرجع سابق ،ص51

[2] المرجع نفسه ،ص52

[3] المرجع نفسه ،ص53  

[4] المرجع السابق،ص56

[5] المرجع نفسه ،ص57

[6] مرجع سابق ،ص83

[7] مرجع نفسه،ص86 

[8] مرجع نفسه ، ص87

[9] مرجع نفسه ،ص87 

[10] مرجع نفسه ،ص 88

[11] ايريك فروم، الإنسان المستلب وآفاق تحرره ،تر:حميد لشهب ، الرباط ،ص21

[12] المرجع نفسه ،ص193