كتاب “أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي”([1]) للمفكر المعماري الإسرائيلي “إيال وايزمان”([2]) يكشف مخططات الاحتلال الإسرائيلي لتقطيع الأراضي الفلسطينية، ووأد حلم الدولة الفلسطينية إلى الأبد، فالكتاب يرصد بالتفاصيل على مدار أربعين عاما (1967 حتى 2007) آليات الاحتلال لترسيخ نفوذه في فلسطين من خلال المعمار والجغرافيا وتخطيط المدن، ويقدم قراءة سياسية للهندسة المعمارية الإسرائيلية، وكيفية ترجمة الاحتلال لأفكاره التوسعية والاستيطانية هندسيا، فالهندسة يمكن فهمها في إطار أنها عامل يرسخ الاحتلال، ، والمعماري الإسرائيلي ما هو إلا عسكري بزي مدني.
الهندسة والاحتلال
لا تتمتع تخوم المناطق المحتلة بالثبات أو الرسوخ؛ بل تخضع لتطور مطرد وفقا لرؤية الدولة المحتلة، وفي الحالة الإسرائيلية تحولت التخوم إلى حواجز، وجدران عازلة، ومناطق آمنة، تزحف بشكل مستمر على القرى والبلديات الفلسطينية لتطوقها وتقطعها، فالحدود الفوضوية التي يتعمد الاحتلال فرضها تعني أن كل تحول سياسي يقتضي تنفيذ قرارات معمارية على الأرض، فتتغير نقاط التفتيش العسكرية باستمرار لتعيق الفلسطينيين بكل السبل، وحينما يُضيق الخناق على الفلسطينيين بنقاط التفتيش والجدران العازلة يتحول الفلسطينيون إلى باطن الأرض حفرا للأنفاق كنوع من الهندسة المقاومة الموازية للهندسة الاحتلالية.
والحقيقة أن جزءا من أهداف السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية هو “تعزيز التعقيد” جغرافيا وسياسيا وقانونيا، فالتعقيد يسمح للاحتلال بالاستمرار والتوسع والسيطرة، كما أنه يغطي على الأعمال الوحشية التي يرتكبها ضد الفلسطينيين، ويوصل رسالة للعالم أن إسرائيل هي الأكثر دراية والأقدر على معالجة وحل القضية الفلسطينية، كما يمارس الاحتلال ” التعمية الإنشائية” وهي إستراتيجية تهدف إلى التشويش على عمليات الهيمنة على الأرض، وبالتالي يصبح أي حل لتقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق أمرا ممكنا، فعدد المستوطنات الذي أقيم في مناطق التخوم كبير جدا بحيث أصبحت هناك مشكلة جغرافية تستعصي على الحل، فمنذ العام 1967 أصبح مصطلح “مستوطنة” يستخدم بهدف طمس الحدود بين إسرائيل والأراضي المحتلة.
يؤكد الكتاب أن الصراع على فلسطين منذ بداياته الأولى كان تعبيرا عن مشروع استعماري واضح تمثل في نزع الملكيات والقمع، وأن المنطق الإسرائيلي لـصناعة السلام كان حكرا على صانعي الحرب، لذا قُدمت خطط تقسيم فلسطين في ثوب السلام، ووضعت المستوطنات ضمن المناطق التي أرادت إسرائيل ضمها إليها.
وأمام هذا الواقع المأزوم أصبح الفلسطينيون يعيشون في جزر منعزلة ومغلقة، حيث تشتمل الأراضي الواقعة تحت الحكم الفلسطيني ما يقرب من (200) قطعة متناثرة، في حين تسيطر إسرائيل على المناطق المحيطة بها إلى جانب سيطرتها على مخزون المياه الجوفية، وسيطرتها على الجو الذي يغلف تلك المناطق، كما أن مخططي المستوطنات الإسرائيلية هدفوا من خلال بنائها في أعالي التضاريس الجبلية إلى تحقيق السيطرة المكانية على الضفة الغربية، فإسرائيل فتت الجغرافيا الفلسطينية، وربطت المستوطنات بشبكة من الجسور العالية أو الأنفاق الغائرة، لذا تحولت الأراضي الفلسطينية إلى أرض جوفاء، فالاحتلال يتغلغل مع طبقات الأرض بدءا من باطنها وما فيه من مياه جوفية وآثار دفينة، إلى سطح الأرض والفضاء الفسيح، لذا فحقيقة الاحتلال الإسرائيلي أنه احتلال استيطاني، نظرا لأن التصور السياسي والجغرافي الإسرائيلي والفلسطيني يحيلان إلى نفس المكان والأرض.
الأرض المدنسة
يؤكد الكتاب أن واحدة من أكثر المعارك أهمية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تجري تحت سطح الأرض، فأكثر من 80% من مخزون المياه الجوفية الجبلية يقبع تحت أرضي الضفة الغربية، ويعتقد الإسرائيليون أن مستقبل دولتهم مرتبط بهذه المياه، لذا تعمل إسرائيل على خلق حالة تدهور مستمرة لمقومات السيادة الفلسطينية على الأرض مما يسهل لها الاستيلاء على باطنها، فتستهلك ما يقرب من 83% من المياه المتاحة سنويا في تلك المناطق لفائدة المدن الإسرائيلية والمستوطنات، وتتمكن مضخاتها العملاقة من سحب المياه الجوفية الفلسطينية .
كذلك ابتدعت إسرائيل حواجز القمامة لعزل القرى والبلديات الفلسطينية، فيوجد ما يقرب من (300) مكب نفايات غير رسمي تُفرغ فيه ناقلات القمامة الإسرائيلية حمولاتها في الوديان والمناطق المحاذية للقرى الفلسطينية، فتُرمى عشرات الآلاف من الأطنان يوميا من مخلفات “تل أبيب”، وهو ما يجعل حركة الفلسطينيين تتم عبر طرق ملوثة وخطرة صحيا، كما أن تخريب أنظمة الصرف الصحي الفلسطينية جعل المياه الملوثة تطفو في الوديان وتنشر أحزمة المرض حول الأراضي الفلسطينية، وكذلك المستوطنات التي تبني في المناطق العالية بدون تراخيص تطلق مياهها الفاسدة إلى الوديان الفلسطينية فيختلط الصرف الصحي بمياه الشرب فيلوثها، ، بل إن الإسرائيليين في بعض الأحيان كانوا يعمدون إلى كسر أنابيب الصرف الصحي لتنتشر مياهها في المخيمات الفلسطينية، وهنا تلعب تلك المياه الفاسدة دورا سياسيا، فإسرائيل تريد استدامة الترابط بين القذارة والإرهاب، وبالتالي يصبح دور الأمن الإسرائيلي هو تعقيم الأرض الفلسطينية من الإرهاب والأمراض في آن واحد.
هذا التلوث المخطط هندسيا صنع مخيالا لدى الإسرائيليين أن المناطق الفلسطينية غير آمنة صحيا، وخلق “رهابا” بأن تلك المناطق مدنسة، وهو ما يبرر السياسات الإسرائيلية للتحصن من الأوساخ والدنس والأمراض الفلسطينية، لينتهي المشهد بقبول الفصل العنصري وتقطيع أوصال فلسطين، بل واحتقار كل ما هو فلسطيني.
القدس..مدينة الأحجار
بعد سبعة وعشرين يوما من احتلال إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967، ألحقت حكومة تل أبيب حوالي (70) كيلو مترا من تلك الأراضي إلي القدس الغربية، ولجأت إسرائيل إلى تغيير معالمها كخطوة استباقية تحسبا لأي ضغوط تؤدي إلى انسحابها، وضمت في هذه الخطوة حوالي (28) قرية فلسطينية، وراعت استبعاد المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية.
كانت الخطة الإسرائيلية تقضي بتطوير القدس وإعادة تخطيطها على نحو يردع أية محاولة لإعادة تقسيمها، وتوالت الخطط الإسرائيلية التي تصب في ذلك الهدف على مدار أربعين عاما، فأقيم حزام من المستوطنات حول القدس لتكون جدرا أسمنتيا وحاجز بشريا، يسمح للقدس بأن تكون عاصمة مترامية الأطراف تصل أراضيها إلى مدينة رام الله في الشمال، وبيت لحم في الجنوب، وأريحا في الشرق، لذا يمكن تفهم مقولة الباحث الإسرائيلي “جيف هالبر” بأن “القدس العاصمة هي عنوان الاحتلال”.
ويلاحظ أن المخططين المعماريين تناغموا مع الأهداف الإستراتيجية للسياسة الإسرائيلية، فالعمارة جسدت لغة بصرية اُتخذت كوسيلة للتعمية على سياسة الاحتلال ولدعم التوسع الإسرائيلي، وتعزيز الأوهام التوراتية بالتوازي مع التضييق على الأحلام الفلسطينية في بناء دولة مستقلة، لذا اعتمدت إسرائيل مخطط “الإكساء الحجري”([3]) للقدس منذ العام 1967 بشكل يكاد يكون صارما نظرا لدلالته الروحية والدينية ولسبغ القداسة على حدودها المرنة لتصبح مسألة القداسة مرهونة بالتخطيط الإسرائيلي، كما ربطت تعريف القداسة بالرؤية السياسية الإسرائيلية، خاصة إذا علمنا أن أي منطقة يجري إلحاقها بالقدس تخضع منذ اللحظة الأولى للقوانين الدينية الخاصة بالمدينة التي تقصر أهدافها على تعزيز الأواصر الروحية بين اليهود والقدس.
[1] ) الكتاب ترجمه “باسل وطفة” ونشرته “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” و “مدارات للأبحاث والنشر” وصدر في طبعته الأولى عام 2017 ويقع في (430) صفحة
[2] ) إيال وايزمان مهندس معماري إسرائيلي، يعمل أستاذاً في جامعة لندن، ومديراً لمركز الأبحاث المعمارية منذ عام 2014م، وباحث عالمي في جامعة برنستون، وهو منصب يستقطب الأساتذة المتميزين من خارج الولايات المتحدة للتدريس في الجامعة.
[3] ) استخدام الأحجار في واجهات المباني