في أحيان كثيرة يجد الناس أنفسهم يعملون وفق معادلات خاطئة، أو يجدون أنفسهم وقد قعدوا عن العمل بسبب تنافر إمكاناتهم مع طموحاتهم. شيء جميل وعظيم ألا نرضى بالقليل، وأن نتطلع إلى الكثير من الخير لنا ولأمتنا، ولكن بشرط ألا تعظم الفجوة بين المطلوب والممكن إلى درجة نفقد معها الحماسة للعمل، ونزهد معها في الممكن، فيضيع من أيدينا إذ ترنو أبصارنا نحو العسير والمستحيل! في مجال الأعمال يقولون: “فكر عالميًّا، وتصرف محليًّا”.

وهذا قول حكيم، يمكن أن نستفيد منه في المجال الدعوي والمجال الحضاري عامة. لنمتلك الرؤية الشاملة والواسعة، ولنحاول أن نعرف موقعنا بدقة على الخارطة العالمية والمحلية.

ولنلامس في تصوراتنا آفاق المطلوب والمتاح، وآفاق القريب والبعيد، والسهل والمرهق، ولكن لنركّز جهودنا دائمًا في دوائر التأثير، حيث لا يدخل في الرصيد في نهاية المطاف إلا تلك المنجزات الصغيرة والقابلة لوضع اليد عليها. الأشياء الصغيرة تظل دائمًا قابلة للتنفيذ، لأنها قابلة للتصديق، والأشياء الكبرى كثيرًا ما تبقى في حيز الأمنيات، لأننا نشك عادة في قدرتنا على القيام بها.

كثير من الشباب المسلم حائر في توظيف وقته وطاقاته في المجال المثمر والملائم؛ فهذا شاب يرغب في أن يكون داعية وطبيبًا. وهذا شاب يرغب في أن يكون مهندسًا وفقيهًا. وهذا شاب ثالث يرغب في أن يكون مدرسًا ورجل أعمال…

شباب كثيرون ابتعثتهم حكوماتهم إلى بلاد الغرب ليدرسوا بعض التخصصات العلمية المهمة، فما كان منهم إلا أن تركوا تخصصاتهم، وانتقلوا إلى المجال الدعوي. وكثيرًا ما تصادف في الولايات المتحدة الأمريكية شابًّا مسلمًا يعمل إمام مسجد، وقد كان تخرج في قسم الكيمياء أو الفيزياء. وهذا رجل يحمل الدكتوراة في الأدب الإنجليزي ترك التدريس في الجامعة ليدرس في مدرسة عربية هزيلة هناك…

في بلادنا شباب ورجال كثيرون لا يحبون الوظائف التي قضوا فيها شطرًا مهمًّا من أعمارهم، إنهم ينظرون إليها على أنها خط رزق احتياطي، أو أنها مصدر تُستمد منه الوجاهة الاجتماعية. إن تطلعاتهم وتفاعلاتهم ومستقبلهم ليس في هذه الوظائف والأعمال، ولهذا فإنهم لا يعطونها إلا القليل من اهتمامهم وجهدهم! هذا مدرس يعمل في تجارة العقار، وهو يجد في تجارته من المردود المادي أضعاف ما يجده في وظيفة التدريس، ولهذا فإنه لا يُحَضّر دروسه، ولا يكلف طلابه بكتابة ما ينبغي أن يكتبوه من الواجبات أو ما ينبغي أن يحلوه من التمارين؛ لأنه لا وقت لديه للتصحيح.

وإذا دُعي إلى اجتماع مسائي في المدرسة؛ فإنه لا يحضر فذلك في نظره اجتماع لغو، ولا وقت لديه لمثل ذلك! وهذا ليس أكثر من نموذج صغير لبلاء كبير! وأود أن أضع النقاط على الحروف في الإضاءات التالية:

1- لن يكون في المستقبل ما يسمى “بالأمم العظيمة والدول العملاقة”، ولكن سيكون هناك دوائر تضم أعدادًا من الأبطال الصغار الذين يهتمون بإتقان الأشياء الصغيرة التي بين أيديهم، وهم يشكلون -حيثما وُجِدوا بكثافة- بؤرًا متفوقة ونافذة ومؤثرة، إنهم يعملون بصمت ومن غير عناوين كبيرة، إنهم أشبه بقطرات الماء التي يتشكل منها النهر العظيم، وأشبه بحبات الرمل التي يتكون منها الجبل العظيم، حبة الرمل ليست بشيء، لكن لولا حبات الرمل لم يكن هناك الجبل العملاق! من المهم أن ندرك أن كل موقع يحتله واحد منا هو ثغرة من ثغور الإسلام، ومن خلال نوعية تصرفنا وأدائنا في ذلك الموقع، نسهم في رفع راية الإسلام وحماية حرماته، أو نُسْهم في ذهاب ريح الأمة، وجعلها عالة على غيرها من الأمم.

إن أمهر البنائين لا يستطيع أن يشيد صرحًا متينًا من لبنات هشة. وإن أعظم الحُكَّام لا يستطيع أن يبني مجتمعًا أقوى من مجموع أفراده. كان (بنجوريون) يقول: “إن إسرائيل لن تقوم بناء على قرار تصدره المنظمة الصهيونية العالمية، ولكننا سنبنيها لبنة لبنة، سنضم البقرة إلى البقرة، والمزرعة إلى المزرعة، والمصنع إلى المصنع، والجامعة إلى الجامعة، وبذلك وحده يصبح لنا دولة بما تعنيه الكلمة”. هذا المنطق هو المنطق القابل للتطبيق، وأعتقد أن مساعينا في دفع الأمة في دروب النهضة ينبغي أن تتركز في شيئين أساسيين: (تقديم النماذج، وبناء الأطر).

إن عقولنا تنطوي في أعماقها على ميول نحو الاستحالة، واستصعاب الأمور. والنماذج العملية هي التي تزرع في تصوراتنا ومشاعرنا الميول نحو الممكن. إن كل مثقف مسلم بقليل من الوعي وقليل من الجهد يستطيع أن يُقَدّم في جانب من جوانب حياته نموذجًا صغيرًا يجذب إليه بعض الناس، فيقلدونه ويترسمون خُطاه، وبذلك يكثر الخير، وتترسخ تقاليد ثقافية مثمرة. وهناك في الأمة رجالات فيهم سمات قيادية، ولهم همم عالية، وهؤلاء لا يكتفون بتقديم النماذج، لكنهم يبنون الأطر التي تجمع الجهود المتفرقة، وتوجه الأنشطة وتحرر الطاقات الكامنة، ومن النماذج والأطر تتشكل فيزياء التقدم.

2- الأمم الفقيرة ليست هي الأمم التي لا تملك المال، لكنها الأمم التي يتلفت أطفالها يمنةً ويسرةً، فلا يجدون حولهم سوى رجال من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فتتجه أبصارهم نحو رجالات الأمم الأخرى باحثة عن القدوة والمثل، وعن حقل جديد للممارسة، وبذلك تنشأ الفتنة الثقافية!

3- هناك علاقة عكسية بين الكيف والكم. وبما أن جهودنا وطاقاتنا مهما بلغت هي في النهاية محدودة؛ فإن ما ننجزه يخضع لتلك العلاقة: الكم دائمًا على حساب الكيف. والمتأمل في (حديث القصعة) وفي واقعنا اليوم؛ يجد أن الأمة تعاني من مشكلة (كيف)، لا مشكلة (كم)، ولو اتجهنا إلى جعل الإحسان والإتقان السمة التي لا نتنازل عنها في جميع أعمالنا لتحسَّنت النوعية وارتقت الأمة. أَمَلِي أن نكفَّ عن الهروب إلى الأمام، والذي طالما مارسناه من خلال الحديث عن الأشياء الكبيرة؛ كي لا نتحمل مسؤولية الأشياء الصغيرة، ومن الله تعالى الحَوْلُ والطَّوْل.