في شمال أوروبا كالسويد والنرويج، ومثلها كل البلاد التي يطول فيها نهار الصيف حتى يتجاوز العشرين ساعة وأكثر، تثار مسألة الصوم، وقد ذهبت إلى هناك، وعلمت أن بعض المسلمين يخالف ما عليه الفتوى في تلك البلاد، فيفطر قبل غروب الشمس، تقليداً لفتاوى أخرى تجيز التقدير على البلد الأقرب، أو على بلاد الحرمين خاصة، كما هي فتوى شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق -رحمه الله- وبعض الفقهاء الأقدمين ممّن تناول ما عرف بفتاوى بلاد البلغار، وهي فتاوى تلاحظ خصوصية تلك البلاد في الصوم وفي الصلاة أيضاً، فقد جاء في الفقه الشافعي: “سُئل الشيخ أبوحامد عن بلاد بلغار كيف يصلون؟ فإنه ذكر أن الشمس لا تغرب عندهم إلا بمقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع، فقال: يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم” البجيرمي علي الخطيب ج3 ص 374.

أما الذي عليه مجلس الإفتاء الأوروبي وعلماء بلاد الحرمين الشريفين وغيرهم من علماء المسلمين اليوم، فإلزام الصائمين بالإمساك حتى مغيب الشمس، ولو استمر إمساكهم ثلاثاً وعشرين ساعة، ومناط الحكم عندهم التمايز أي وجود اسم الليل واسم النهار أخذاً بقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، والقاعدة تقول: لا اجتهاد في معرض النص، وعلى هذا فلا يجوّزون التقدير إلا اذا انعدم التمايز، بمعنى أن يكون النهار أربعاً وعشرين ساعة أو أكثر، ولكن كثيراً من هؤلاء تجوّزوا في تقديم صلاة العشاء إلى وقت المغرب، وهو المعمول به في كثير من المساجد هناك، بل وقرأت فتاوى لآحاد من العلماء بإسقاط صلاة العشاء أصلاً، وهي -وإن لم يلتفت إليها- لكنها تؤشّر على وجود مشكلة فقهية، تتطلب منهجية إفتاء أكثر ضبطاً وأكثر دقة.

الذي يعنينا هنا ليس ترجيح فتوى على فتوى، ولا رأي على رأي، وإنما تشخيص نقطة الإشكال المنهجي في طريقة الإفتاء المعاصر، والتي ربما تنتج إشكالات أخرى في مسائل أخرى أكثر حساسية وأبعد أثراً.

حضرت اجتماعاً موسّعاً لبعض العلماء وخطباء المساجد في الغرب لبحث هذه المسألة، ثم ختم الاجتماع بالاتفاق على حرمة التقدير في الصوم، وعلى جواز تقديم العشاء، والجو العام كان كله بهذا الاتجاه، حتى رأيت كأنهم ما كانوا يشعرون بالحاجة لبحث هذا الموضوع أصلاً، اقترحت حينها إشراك مجموعة من الأطباء على أن يقدّموا أوراقاً بحثية عن مدى تأثير هذا الإمساك على جسم الإنسان، فلم يحظَ الاقتراح بالاهتمام، وأجابني أحد المشايخ الفضلاء: بأن المسألة لا تستوجب، فمن عجز عن الصيام أفطر ويقضي في أيام أخر، وربما على سبيل المجاملة تم الاتصال بطبيب مسلم مقيم هناك، فكان جوابه كالآتي: “ليس هناك أي ضرر، وكيف نشك بإمكانية وجود ضرر في شيء فرضه الله علينا”، فهمت أن الطبيب هنا لم يتكلم بمعلومة طبّية مدروسة، وإنما تكلّم بمنطق الشيخ أيضاً، وهذه إشكالية أخرى، حيث نكتشف أن الطبيب أو عالم الفلك المتديّن قد يجيبنا بآرائه الدينية وليس بمعلوماته التخصصية، لكن الشيخ يفرح لما يظنه مستنداً علمياً لرأيه، فيحصل نوع من التضليل أو الغش غير المتعمد.

بعد ذلك الاجتماع، اتصلت بصديقي الدكتور عبدالناصر الجزائري، وهو طبيب استشاري، وعضو في فريق الخبراء في المجلس القطري للتخصصات الصحية، وطلبت منه أن يتأنّى في دراسة هذه المسألة بطريقة علمية وموضوعية محايدة، فأفادني بعد مدّة ليست بالقصيرة، أنه بحث في مصادر طبية موثوقة، فتأكّد له أن الامتناع عن الطعام لـ 20 ساعة ولأيام متعددة، من شأنه أن يصيب العضلات بالضمور ثم بالتكسّر، وتزداد نسبة الخطورة في حالة العمل والجهد العضلي المقترن بحالة الجوع هذه.

أبلغت أحد المشايخ المعنيين بهذا الأمر هناك، وأرسلت له إفادة الدكتور الاستشاري فلم يصلني منه أي جواب، مع مضي عدة أشهر، ثم التقيت لقاء عرضياً بأحدهم فقال: الجواب عندنا واضح أن الذي يشق عليه الصوم ولا يتحمل يفطر ويقضي، قلت: يا شيخ الموضوع ليس موضوع مشقة وتحمل، نحن نتكلم عن ضرر بالغ قد لا يشعر به الصائم، وهو ضرر عام، فهل ستشرحون هذا للناس؟ وهل ستفتونهم جميعاً بالإفطار ثم القضاء؟ وذهب ولم يرد لحد الآن!

نأتي الآن إلى النص الذي يتمسك به المُفتون، والذي دفعهم ورعهم إلى إهمال ما سواه، وهو قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، لنسأل بعض الأسئلة -ولسنا في مقام الإفتاء-: هل مسمى الليل الذي يتحدّث عنه القرآن، هو نفسه مسمى الليل هناك؟ القرآن يصف الليل بأنه سكن ولباس، وفيه أحوال وأوقات مختلفة، فيه الغروب وفيه الشفق والغسق والظلمة والعتمة والسحر، هذا هو الليل الذي يقابل النهار، فهل يصح إطلاق الليل على ساعة واحدة أو ساعتين، قد لا يحل فيهما ظلام أصلاً، حيث تبقى الشمس قريبة من الأفق؟

إن علاقة الاسم بالمسمى مبحث لغوي، وهو مبحث فقهي كذلك، تنبني عليه عشرات المسائل العملية، وقد بحثه علماؤنا الأوائل بحثاً مستفيضاً، ومن ذلك قولهم: “للأكثر حكم الكل بقاء وذهاباً”، ومن تطبيقات هذه القاعدة قولهم: “والميت اسم لكله، ولو وجد الأكثر منه غسل لأن للأكثر حكم الكل، وإن وجد الأقل منه أو النصف لم يغسل”.

ألا يمكن القول هنا إن الليل قسيم النهار، وإن الأصل فيه 12 ساعة، فإذا ذهبت 7 ساعات منه فقد ذهب مسمى الليل، وإذا ذهب الليل عدنا إلى التقدير المنصوص عليه في حديث الدجال، مع ملاحظة أن التقدير ينبغي أن يكون بأسس علمية، وليس وفق مقولات عائمة ومرتبكة.

الليل والنهار في لغة القرآن لهما صفات ولهما وظائف دينية ودنيوية، مثل قوله تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون}، وقوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}، وقد جاء في الحديث الشريف: “يوم الجمعة اثنتا عشرة -يريد اثنتا عشرة ساعة-” رواه أبو داود، وفي صحيح البخاري: “ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة”، فواضح في القرآن والسنة أن الحديث إنما هو عن الليل المعتاد والنهار المعتاد، وليس عن الحالات الشاذّة التي لم يسمع بها العرب.

إننا -حقيقة- نعاني من منهجية قاصرة، عجزت عن تقديم “الحل الإسلامي” لكثير من المشكلات والمعضلات، بدءاً من الرؤية والحساب الفلكي، وانتهاء بموضوع الانتخابات والمواقف السياسية المختلفة.