في كل عام، وفي مثل هذه الأيام العشر الأواخر من رمضان، يتحرى المسلمون ليلة القدر، وهي الليلة التي نزل فيها القرآن «إنا أنزلناه في ليلة القدر»، والقدر معناه الشرف العالي والمنزلة العظيمة، وهي الليلة التي سمّاها القرآن ليلة مباركة «إنا أنزلناه في ليلة مباركة»، والبركة كلمة جامعة لمعاني الخير، وقد نصّ القرآن على هذا الخير الذي ما فوقه خير «ليلة القدر خير من ألف شهر»، وهنا نقف مع مسائل علمية من هذه الليلة، ليكون احتفاؤنا بها احتفاء صحيحاً ونافعاً بإذن الله:

المسألة الأولى: أنها ليلة تتكرر في كل عام، ودليل ذلك أمره -عليه الصلاة والسلام- بالتماسها وتحرّيها كما في الأحاديث الثابتة الصحيحة، ومنها: «تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر» و «التمسوها في العشر الأواخر»، ولو لم تكن تتكرر لما كان في تحرّيها والتماسها فائدة، ومعنى تكرارها تكرار بركتها وفضلها، وإلا فإن الليلة التي نزل فيها القرآن هي ليلة واحدة، وقد كانت وانقضت بنزول القرآن وانقطاع الوحي.

المسألة الثانية: أنها في شهر رمضان، لقوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن»، وأنها في العشر الأواخر منه -كما مرّ في الأحاديث الصحيحة- إلا أنه لا يمكن الجزم بالتحديد، وربما يكون هذا الإبهام مقصوداً لدفع الناس إلى العمل الصالح مدة أطول من الليلة المحدّدة، وربما يكون مراعاة لتفاوت علم الناس بدخول الشهر، بحسب اختلاف بلدانهم، وإمكانية الرؤية عندهم، فلو حدّدت في ليلة معيّنة لاختلف الناس فيها أيضاً، ومن ثمّ كان الأحوط تحرّيها في أكثر من ليلة، والله أعلم.

المسألة الثالثة : أن شرف هذه الليلة مرتبط بشرف القرآن الكريم، فالاحتفاء بها إنما هو احتفاء بالقرآن، ومن ثمّ فالأقرب إليها وإلى خيرها وبركتها هو الأقرب إلى القرآن بتلاوته وتدبّره والعمل به، أما تحويلها إلى ليلة احتفالية، وكأنها عيد من الأعياد، فهو إفراغ لمضمونها، وانحراف عن غايتها. لذلك جاء في الأحاديث المشهورة في الصحيحين والسنن، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي هذه الليلة ومن ذلك:

جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر.
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: من قام ‌ليلة ‌القدر ‌إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. فقيام رمضان وليلة القدر سبب في تكفير الذنوب والمعاصي.

المسألة الرابعة : أن نزول القرآن، وإن كان في ليلة واحدة، وهي ليلة القدر، إلا أن نزوله المفصّل كان يواكب حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلها من البعثة حتى الوفاة، وهكذا ينبغي أن يكون تأثير هذه الليلة في حياتنا، إنها ومضة النور الأولى التي ينبغي أن نستصحبها في حياتنا كلها، فتعظيم هذه الليلة إنما هو تعظيم لبداية الطريق، والنقطة الفاصلة في حياتنا، ولا تعني الحصر والانقطاع، فأن نعيش مع القرآن في كل حياتنا هذا هو معيار النجاح ومعيار الفهم الصحيح لهذه الليلة المباركة.

المسألة الخامسة : أن التقرّب إلى الله تعالى في هذه الليلة إنما يكون على وفق منهج الله، فرفع المظالم بين الناس، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها؛ المادّية منها والمعنوية، وتأدية الفرائض والواجبات المطلوبة كل ذلك مقدّم على النوافل التي يجتمع الناس عليها اليوم، كإطالة الركعات، وعدّ الختمات، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه..»، والله يتقبل منا ومنكم، ويجمعنا برحمته على ما يحبّه ويرضاه.