المتأمل في الخريطة الفقهية المعاصرة ، يجد اندثار رتبة ( الكراهة) فقد أصبحت اللغة الفقهية اليوم في مجال المنهيات مقصورة على رتبة الحرام ، فإذا لم يكن الأمر المبحوث حرامًا ، انتقل إلى أقصى اليمين من دائرة العفو، فصار ( جائزا). هكذا بالقفز على رتبة ( المكروه).

والمكروه الذي نقصده هنا هو قسيم الحرام، وهو ما اصطلح على تعريفه بأنه: ” ما تركه خير من فعله، ولا عقاب في فعله “. وهو ما يثاب  المكلف في تركه امتثالاً، وإذا فعله فلا يعاقب على فعله، ولكن يقال عنه بأنه مخالف. قال القاري في ” فتح العناية”:” إنما يكون – فعله لوثة مخالفة في صحيفة الإنسان “.

فالمكروه المراد هنا أحد مراتب الحكم الشرعي الخمس، وهي : الواجب، والمسنون، والحرام، والمكروه، والجائز.

المكروه في كتب التراث

ووصف الشيء بالكراهة كان مألوفا ومعتادا في كتب التراث.

تطالعنا كتب التراث بعناوين مثل : مكروهات الوضوء، مكروهات الصلاة، مكروهات الطواف، مكروهات الصيام، مكروهات السعي بين الصفا والمروة، وهكذا، حتى في أبواب المعاملات، نجد بابًا بعنوان ( الحظر والكراهية)، كما ألفينا أنواعًا من البيع توصف بالمكروهة، وأنواعًا من النكاح توصف بالأنكحة المكروهة، بل رأينا كيف أن الشارع سمى الطلاق  أبغض = أكره الحلال!

المكروه ودقة الفقيه

لقد كانت تمثل رتبة ( المكروه) دلالة على دقة الفقيه في استنباط الحكم الشرعي، حيث تضيق درجات التشريع في المسألة المبحوثة ضيقًا، يحمله على الدقة في البحث، أما ترهل مساحة التشريع، بحيث لا يوجد بين الحرام والجائز درجة لما يلتبس بينهما، فإنها لا شك تؤدي إلى الخلط بين الرتبتين في بعض المسائل المبحوثة، تزيد وتقل حسب براعة الملكة الفقهية ومن قبلها توفيق الله عز وجل.

ومن مظاهر ذلك أننا نجد أن الأمر الواحد يوصف على لسان الفقيه ذاته، مرة بالجواز، ومرة بالحرمة، دون تغير في ملابسات تغير الفتوى من زمان أو مكان أو عرف، ما يدل على أن الحكم بالفعل يتردد في ذهن الفقيه بين هذين الدرجتين، ( الحرمة والجواز) لكنه لم يهتد إلى الدرجة البينية بينهما ( المكروه).

كما وجدنا بعضهم يصف مرة شيئا سئل عنه بقوله : ( هو حرام بس مش حرام قوي) !

الكراهية في لسان العوام

لقد كان العوام في مصر الذين لم يدرسوا الفقه ، أسعد حظا بهذه الرتبة من بعض الفقهاء، ذلك حينما وصفوا التدخين بأنه ( مكروه) وذلك هو الوصف الشائع للتدخين بين المدخنين في مصر، فهم لم يجترئوا على وصفه بالجائز الحلال لما رأوا فيه من  أضرار وخبائث، كما أنهم لسبب ما لا يريدون أن يصفوه بالحرمة !

وليس المقصود هنا موافقة العوام على وصف التدخين بالكراهة، بل المقصود بيان أن مرتبة الكراهة مما تتسق مع العقل البسيط، فيا للعجب كيف أخطأتها عقول بعض الفقهاء !

من فوائد رتبة (الكراهة)

قد يظن البعض أنه لا فرق بين الجائز والمكروه باعتبار أن المكروه سيئول إلى الجواز؛ لأن المكروه لا عقاب في فعله، بيد أن هذا الظن ليس صحيحا.

فإن العاقل يتعامل مع ( المكروهات ) باعتبار أنها تمهد للمحرمات، وتسهل على النفس حصولها، كما يمهد الرائد لمن وراءه، ومتى تمرنت النفس على المخالفة الخفيفة جرؤت على أكبر منها؛ كما في حديث البخاري: “لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده”؛ أي: فلا يزال يترقى من سرقة أمثال هذه الأمور التافهة حتى يسرق الأمور التي تقطع فيها يده.

[ انظر تعليق دراز على الموافقات (3/ 539)]

 

الكراهية والتباس الأدلة

ومن فوائد رتبة (الكراهة) أنها جديرة  باستحقاق الأفعال التي  تلتبس فيها أدلة الجواز والمنع، والتحليل والتحريم، فعند غياب هذه الرتبة، لا يجد الفقيه حينما تلتبس عليه الأدلة إلا أن يصُفَّ المسألة المبحوثة إما في وادي الجائزات، وإما في وادي المحرمات، وكلا الأمرين منهي عنه، قال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].

وقد يميل بعض العلماء عند الالتباس إلى التحريم ظنًّا منه أن هذا هو الورع، وينسى أن تحريم الحلال مثل تحليل الحرام في الإثم، يقول الشيخ ابن العثيمين : “فتحريم ما أحل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ، ومع ذلك، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال؛ لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل، وهو الحل، ورحمة الله – سبحانه – سبقت غضبه، فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه؛ ولأنه أضيق وأشد، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم.

[ مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (10/ 732)]

قد يكون خيرًا

ولربما كان غياب هذه الرتبة من لغة الفتوى المعاصرة خيرا في هذا الزمان، حتى لايتخذها علماء السوء منعطفا للتهرب فيه من الحرام البين!