الضابط الثاني – أن تكون المصلحة الشرعية حقيقية غير متوهمة، وهي المصلحة اليقينية التي يمكن القطع بحصولها أو يظن ظنا غالبا كونها كذلك، فيعلق الحكم عليها ويعتد بها بخلاف المصلحة الموهومة التي لا تصل إلى درجة الظن الغالب ناهيك عن درجة القطع باليقين[1]. وهذا باعتبار المصلحة ذاتها أن تكون حقيقية.

ويمكن اعتبار المصلحة حقيقية كذلك إذا كانت موصلة إلى المقصد الشرعي، فهي في هذه الحالة أسباب المصالح وكلا الإطلاقين مقبول. وهذا ما أشار إليه العز في قواعده: “المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح .. وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب”[2].

والمقصود أن المصلحة الشرعية سواء في تحصيل عينها أو نتائجها أنها لا تعتبر شرعا في كلا الحالين إلا أن تكون حقيقية بالقطع أو بالظن الغالب.

ومن هنا رفضت المصلحة الملغاة لأن المصالح التي يدعى وجودها فيها مجرد خيال أو هي مترددة الوقوع، أو أفضت نتائجها إلى المفسدة الحقيقية. جاء في قواعد الأحكام: “ربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات فإنها مصالح نهي عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقة”[3].

ومن أمثلة ذلك: قتل المريض الميوؤس من برئه وهو (القتل الرحيم) أو (قتل الرحمة)، ويطلق عليه في اللغة الأجنبية بـ (Euthanasia) وهو الموت بقصد إنهاء معاناة المريض الذي يستحيل شفاؤه. وهذه العملية يلجأ إليها الطب الحديث لإنهاء حياة المريض بقصد تخفيف الآلام والأوجاع التي يعاني منها بدافع الشفقة والرحمة به، سواء كان القتل بطلب وإذن من المريض وأهله أو بدون ذلك[4].

وهذا النوع من القتل حظي بالطرح الشديد في بعض الدول الأوروبية وفشلت طلبات التشريع، ماعدا هولاندا التي وافقت على الإذن 1992م[5]. وحسب الدكتور نور الدين الخادمي إن الطرح الغربي لهذا الأمر إنما كان باعتبار أمر شخصي يعود إلى المريض نفسه، أو على أنه من قبيل الأفعال الإنسانية للإرفاق بالمريض[6].

وأثارت هذه الدعوات مشكلات أخلاقية، وقانونية، وإنسانية ومهنية في أوساط الدول الغربية منها:

1-  أن هذه الدعوات قد تؤول إلى الاستهتار بكرامة الإنسان وحقه في التمتع بالحياة، وهذا يخالف قيم العلم والطب والصناعات.

2-   أنها قد تفضي إلى الاضطرابات النفسية والاجتماعية التي قد تأتي من مستقبل أي مرض مفاجئ بسبب ادعاء اليأس من الاستشفاء، فلا يكترث الطب الحديث لطلب العلاج.

3- أن هذه الدعوات قد تصل بالبعض إلى الاعتداء على الحياة البريئة، حين يتخذ عديم الخلق والإيمان (القتل المشروع) ذريعة للتخلص من أشخاص معينة، أو وسيلة للتطهير العرقي فيخلص من مجموعة من البشر تشفيا مثلا بدعوى اليأس من أحوالهم المرضية[7].

نرى المصلحة المزعومة التي صاحبت الموت الرحيم وهمية، لا تحقق مصلحة التداوي والاستشفاء في أساسها، وهو الحفاظ على حياة الفرد والمجتمع، بل الأضرار المترتبة عليها تستوجب منعها، فالمصلحة في هذه القضية إذًا ملغاة غير مقبولة.

الضابط الثالث – أن تكون المصلحة المعتبرة في الشريعة غالبة، والمقصود أن المصالح التي تعتبر شرعا وتتعلق الأحكام الدينية بها يلزم أن يكون مقدار النفع فيها غالبا، فإذا كانت الجهة الغالبة هي المنافع فلا يلتفت إلى الأضرار القليلة التي تصاحب المصلحة، لأن هذه الأضرار لا تقع إلا نادرا لقلة مقدارها إلى جانب المنافع. والضرر اليسير أو القليل معفو عنه.  وهذا من جهة الوجود فإن المصلحة المطلوب تحصيلها وتكثيرها في الشرع ما كانت غالبة. وينطبق الأمر ذاته على جهة الرفع فإن المفسدة التي يقصد درؤها في الشريعة هي الغالبة وليست النادرة، وإن شابها منفعة قليلة، فالعبرة بالجهة الغالبة.

يقول الإمام الشاطبي: المصلحة إذا كانت هي الغالبة – من حيث تعلق خطاب الشارع – عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد .. فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه. وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي .. فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل”[8]     

ويلزم من تقديم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة، أن تكون المصلحة حقيقية غير موهومة، وهنا يرتبط هذا الضابط بالذي سبقه، فإن المصلحة الغالبة لا يمكن إثباتها إلا عن طريق اليقين أو الظن الغالب وهما أقوى من الظن المرجوح أو الوهم. لذلك امتنع العلماء من الاحتجاج بالمصالح الملغاة لأن المفاسد فيها أغلب، ومقدار المنفعة فيها لم يبلغ القطع المفيد للعلم[9].

ومن أبرز أمثلة ترجيح المصلحة الغالبة: ما كان أصله الإباحة من حاجيات الناس نحو: السّعي للرزق، والنكاح، والتجارة والصناعة والزراعة، وطلب العلم، وكل ما يحقق مصالح الناس وحاجاتهم، إذا توقع اعتراض بعض المفاسد المتوهمة لها نظرا لبعض المشاق والأضرار القليلة الملتبسة بها؛ فإن هذه المفاسد لا أثر لها في منع ما يحتاج إليه الناس من المصالح.

ومنها – زراعة العنب لا تحرم بداعي خشية اتخاذه خمرا، لأن هذا الضرر لا يقع إلا نادرا لا سيما من المسلم المكلف.

ومنها – استعمال السيارات لا يمنع وإن كان الوقوع في الحوادث والكوارث التي تؤدي إلى الخسائر البشرية والمادية ممكناً ومحتملاً؛ لأنها مفاسد نادرة مقارنة بالمنافع الغالبة[10].

الضابط الرابع – أن تكون المصلحة المعتبرة عامة أو كلية، والعموم هنا أن يتعدى نفعها إلى الأمة بأسرها دون الحصر على المعينين، إذ الأصل في الخطاب الشرعي شموله جميع الأفراد، ولا يجوز التخصيص بحال معينة أو بأفراد خاصة إلا بالديل الشرعي.  واشتراط كون المصلحة عامة لا يلزم منها وقوع منفعتها بجميع أفراد المكلفين في آن واحد، وإنما القصد تحصيل كثير من المنافع الآنية والمستقبلية، ولو بعدد متفاوت بين المنتفعين[11].

ويطبق هذا الضابط ضمن المعايير التفضيلية بين المصالح المتعارضة، فإذا تعارضت مصلحة عامة كلية بمصلحة خاصة جزئية، أي تعارضت المنفعتان من حيث شمول جميع الأفراد ووفرتها، فكان شمولها لعدد كبير في المصلحة العامة، وانحصارها على فئة محددة بعدد يسير في المصلحة الخاصة، رجحت المنفعة العامة للجماعة على الخاصة، وهذا غالبا في القضايا الأممية التي تعنى بقوام الأمة وحياتها.

ونبه على هذا المعنى ابن عاشور فقال: “تنقسم المصالح – باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها أو أفرادها – إلى كلية وجزئية. ويراد بالكلية في اصطلاحهم ما كان عائداً على عموم الأمة عوداً متماثلاً، وما كان عائداً على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر، وبالجزئية ما عدا ذلك .. والمصلحة الجزئية الخاصة، هي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة”.

ثم اعتبر المصلحة العامة المتعلقة بجميع الأمة قليلة الأمثلة منها حماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين، وحفظ القرآن من الضياع[12].

وهذه الضوابط المذكورة هي أهم ما جاء في المصلحة، ويلزم مراعاتها حين يحتكم إليها في الاستدلال، والمقصود بالمصلحة كما سبق الحديث عنها هي المصلحة التي توافق مقصود الشارع في العموم، ويدخل فيها جميع المصالح المعتبرة في الوضع الشرعي.


[1]  المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة (281)

[2]  قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/14).

[3]  المرجع السابق .

[4]  السعدون، عمر، القتل الرحيم دراسة تأصيلية مقارنة (16).

[5]  المرجع السابق (29).

[6]  الخادمي، نور الدين، (قتل الرحمة) وإيقاف العلاج عن المريض الميؤوس من برئه حكمه ومدركاته ، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، الدورة 22، مكة المكرمة، صفحة (8) .

[7]  المصلحة الملغاة في الشرع الإسلامي وتطبيقاتها المعاصرة (27).

[8]  الموافقات (2/47).

[9]  معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية (4/245)؛ المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، نور الدين الخادمي (281).  وأفرد أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني كتابا علميا مؤصلا في “نظرية التقريب والتغليب”، وهو كتاب عظيم الفائدة وجدير بالعناية لعلاقة هذا الموضوع به.

[10]  معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية (4/240).

[11]  المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، نور الدين الخادمي (282).

[12]  مقاصد الشريعة الإسلامية (3/253).