في ظل الاضطراب الحاد في منظومة القيم الاجتماعية كتحدّ متوقّع من تحدّيات العولمة والانفتاح على القيم المستوردة، وما تمارسه كثير من وسائل الإعلام من ترويج غير مبرر للثقافات الغازية، حتى فيما يتعلق بالعلاقات الأسرية، لكل ذلك راحت الأسرة تدفع ثمناً باهظاً في استقرارها ونمط علاقاتها، ولا أدل على هذا من انتشار معدّلات الطلاق في عموم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكان من المؤمّل أن يمارس الخطاب الديني دوره في المعالجة وتقديم الحل الأفضل، حيث إن مجتمعاتنا ما زالت تسمع للخطاب الديني وتتأثّر به، خاصة في هذا المجال، إلا أنه من الملاحظ أن الخطاب الديني في كثير من الحالات أصبح جزءاً من المشكلة، وأن الأسر المتدينة ربما لا تختلف كثيراً في مشاكلها عن غيرها من الأسر، فأين يكمن الخلل؟

إن الخطاب الديني في كثير من الأحيان يستحضر الفتوى الجزئية المحدّدة وينزعها عن منظومتها القيمية والأخلاقية، فهو يفتي مثلاً في التعدّد أو الطلاق فتاوى مبتورة عن سياقها القيمي والأخلاقي والتربوي، كأنه يتعامل مع المشكلة بمنطق القضاء والقانون المجرّد من أي اعتبار آخر، والحقيقة أن الدين إنما هو قيم ومبادئ وأخلاق وتربية قبل أن يكون أحكاماً فقهية، بل إن الفقه الإسلامي كله، وفي كل مجالاته، لا يحقق مقاصده وغاياته المرجوّة، إلا بعد أن يتكوّن المجتمع تكويناً إيمانيّاً وأخلاقياً.

إن المفتي الذي يبيح الطلاق بإطلاق ويجعله حقّاً للرجل وعلى وفق مزاجه، حتى إنه لا يشعر بالحاجة لسؤاله عن أسبابه ومبرراته وآثاره المتوقّعة، إنه حقيقة يغفل أو يتغافل عن جملة من المقاصد الكبرى التي يهدف الإسلام إلى تحقيقها في الأسرة والمجتمع، ومن ذلك ما نصّ القرآن عليه في مثل قوله تعالى: «وجعل بينكم مودّة ورحمة»، فلا أدري ما مصير المودّة والرحمة في ظل هذه الفتاوى؟ ثم ما مصير الأولاد الذين هم رأس مال المجتمع وضمانة مستقبله؟ كل هذا ربما لا يخطر في بال المفتي، بل لمست من بعض المفتين العكس، بمعنى أنه ربما يتحرّج من تحذير المطلِّق، خشية أن يقع في تحريم شيء قد أحلّه الله! نعم فهدم المودّة والرحمة لا يعتبره المفتي إثماً، لأن هذا غير منصوص عليه في كتب الفقه، وضياع مستقبل الأولاد كذلك، ومثله تسميم العلاقات الاجتماعية في دائرتها الأوسع، كالأعمام والأخوال، وما إلى ذلك، وفي بعض الأحيان تشعر الزوجة بالظلم الكبير، خاصة تلك التي بذلت حياتها وشبابها ومالها، وقد صبرت معه على كل الظروف الصعبة التي مرّ بها، ثم في أول خلاف معها أو مع أهلها يرى أنه من حقّه -وفق هذه الفتاوى- أن يطلّقها أو يقهرها بطريقة تعسّفية ومستفزّة بزوجة ثانية، دون النظر إلى أي اعتبار آخر.

إن الذي يكشف خلل التكوين الشرعي لدى هؤلاء المفتين أنهم يحفظون أحكام الطلاق بكل تفاصيلها وأدلتها، لكنك حينما تسألهم عن منهج الإسلام في استقرار الأسرة والحدّ من ظاهرة الطلاق تكون إجاباتهم ضعيفة ومرتبكة.

إن المستشرقين والتغريبيين الذين يتهمون الفقه الإسلامي بأنه «فقه بلا أخلاق» ربما يجدون متنفسهم في مثل هذه الفتاوى القاصرة والمرتبكة.

إذا كانت الأسرة هي أساس المجتمع ولبنته الأولى، فإن العلاقة بين الزوجين هي أساس تكوين الأسرة، وعلى هذا كان ينبغي للخطاب الديني أن يعزز كل ما من شأنه أن يرسّخ ثقافة الانسجام بين الزوجين؛ لكن الملاحظ أن بعض هذا الخطاب جعل هذه العلاقة كأنها الحلقة الأضعف في سلسلة العلاقات الاجتماعية، وهذا في تقديري سبب مهم في تفكّك الأسر وانتشار حالات الطلاق، خاصة في الأسر المتديّنة.

يمكننا هنا أن نضرب مثالاً مما هو شائع ومكرر بكثرة؛ فبعض الوعّاظ يختار موضوع العلاقة الزوجية باعتباره محكاً لاختبار الزوج في مدى برّه لوالديه؛ حيث تشتبك في الكثير من علاقاتنا الأسرية قيمتان عظيمتان من قيم الإسلام؛ قيمة المودة والرحمة بين الزوجين، وقيمة برّ الوالدين، فيخلص الواعظ إلى الإطاحة المستعجلة بالقيمة الأولى لصالح القيمة الثانية دون تلكّؤ أو تردد.

إن الواعظ هنا -في كثير من الأحيان- لا يجد في نفسه الحاجة للبحث والمدارسة والمقارنة؛ إذ كيف تقارن الزوجة بالأم؟ هذا في نظره محسوم دينيّاً، كما أن العرف المحافظ يميل بشدّة إلى هذه النتيجة لما فيها من إظهار معنى الرجولة وعدم السماع لجهة الزوجة مهما كانت شكواها.

الأم في الحقيقة ليست معصومة من الظلم والخطأ، والزوجة مثلها في هذا الشأن، والإسلام لا يمكن أن ينحاز لهذه أو تلك، فالظلم محرّم على الجميع؛ الأب والأم والزوج والزوجة والابن والبنت، «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا). والإسلام لا يمنح صكاً مسبقاً بالبراءة، بل كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، وحاجة الأب أو الأم للاعتراف بالخطأ والتوبة لا تختلف عن حاجة الآخرين.

كنت أحاول الإصلاح مع بعض الناس للحيلولة دون الوصول إلى الطلاق، وقد رأيت من الزوج حبّاً شديداً لزوجته وثقة كبيرة بها وبأخلاقها ومواقفها؛ لكنه يهمّ بطلاقها إرضاء لأمّه، فقلت له: إنك بهذا التصرّف تظلم نفسك، وتظلم زوجتك، وتظلم أمّك أيضاً. قال: فهمت الأولى والثانية ولم أفهم الثالثة، فقلت له: إن أمك ستتحمّل إثماً كبيراً وأنت ستعينها على هذا الإثم من حيث تريد برّها.

لقد أوحى بعض الوعّاظ إلى الآباء والأمهات أنهم في حِلّ تجاه زوجات أبنائهم، وأن الزوج عليه أن يسمع لهم ولو كان في كلامهم الغيبة والنميمة والظلم والبهتان.

ربما يكون الدافع لهذا النوع من الوعظ شيوع حالة العقوق وإهمال مقام الوالدين، حتى صار من المعتاد عند بعض الناس أن يكل أمر أبيه أو أمه إلى الخدم، أو إلى دور العجزة، وقد يكون هذا إرضاء لرغبة زوجته أو أمّ زوجته! لكن الإسلام لا يتعامل بمزاجيّة ردّات الفعل، ولا ينظر من نافذة ويغلق النافذة الأخرى.

إن عقوق الوالدين في المجتمعات غير المتديّنة لا ينبغي أن يقابله ظلم الزوجات في المجتمعات المتدينة.

إن العقوق حالة خطيرة يجب أن تعالج بمنهج علمي مدروس، وليس بمزاجية طائشة، وأفضل طرق العلاج تقديم النموذج المقنع الذي يحفظ حقوق الآباء والأمهات كما يحفظ حقوق الزوجات والأبناء والبنات، ويقيم ميزان الحق والعدل بين الناس كل الناس مع ترسيخ قيم المودة والرحمة والحب والاحترام، وليس بمقابلة الخطأ بالخطأ، ومعالجة الظلم بالظلم.

كنت أسمع لأحد الدروس الوعظية في بر الوالدين، وقد رأيت الواعظ كأنّه استرسل في أسلوبه العاطفي، حتى خرج عن مقصود الشرع، كان مثلاً يستنكر بشدّة أن يقول الابن: إن أبي أو أمي تعيش عندي في البيت، فهو يصحّح له سؤاله قائلا له: أنت عندها وليست هي عندك، ثم يسترسل بالاستدلال والاستشهاد بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: “أنت ومالك لأبيك”.

الشيخ لم ينتبه إلى أنه قد خالف في استنكاره صريح قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) فبيت الابن هو بيته وليس بيت أبيه، وهذا حق التملّك الشخصي الذي لا ينبغي أن يوضع في الكفّة الثانية المقابلة لبرّ الوالدين، وهذا هو منهج الإسلام الكامل والشامل والمتوازن (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) فرحمة الولد بوالديه واجب إلى درجة إظهار الذلّ لهما والتواضع والصبر على ما قد يبدر منهما، لكن ليس معنى هذا أن تضيع الحقوق المالية له ولزوجته ولأولاده، ولذلك نرى أن آيات المواريث تقدّم الابن والبنت على الأب والأم، يقول الله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، فلو كان مال الرجل لأبيه على الحقيقة فكيف يورّث الإسلام ابن المتوفّى أو بنته أكثر من أبيه؟ جاء في تحفة الأحوذي: «أنه تعالى ورّث الأب من ابنه السدس مع ولد ولده، فلو كان الكل ملكه لم يكن لغيره شيء»، وقال الإمام الشافعي: “فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره، وقد يكون أنقص حظّاً من كثير من الورثة، دلّ ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه”، وقال ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً.

إن العلماء الأصوليين يتجّهون دائماً إلى التفصيل الدقيق وجمع الأدلة ومقارنتها واستنباط الأحكام منها، بينما يميل الوعّاظ إلى العموميّات والنصوص المجتزأة والخطاب العاطفي الذي يسير في الغالب باتجاه واحد، وينظر للأمور من نافذة واحدة.

إن الواعظ مطلوب منه أن يفكّر بمآلات كلامه، فإطلاق القول بأن مال الولد ملك لأبيه له تداعيات خطيرة قد لا يصل إليها نظر الواعظ، ومن ذلك إثارة أطماع بعض الآباء في الاستحواذ على أموال أولادهم، وقد ينبني على هذا نزاع وخصام، وهو بخلاف مراد الواعظ نفسه، وقد استفتاني أحد الناس بشأن والده الذي يصر على أخذ مال ابنه المجتهد في طلب الرزق، ليوزّعه على إخوته، وقد احتج عليه أبوه بهذا الحديث، فقال لي: لو أطعت أبي فيما يريد لفقدت الرغبة بالعمل، ولقعدت مثل إخوتي، وهذه نقطة أخرى قد تضرب التنمية والإتقان في العمل، وهما قيمتان عظيمتان من قيم الإسلام.

إن إعطاء الوالدين حق محو شخصية الأولاد في تخصصهم الدراسي، وفي اختيار أزواجهم وعلاقاتهم ووظائفهم، ثم في الاستحواذ على ممتلكاتهم ليس له صلة بمفهوم برّ الوالدين، بل هو غلوّ يصل إلى التقديس، وله آثاره السلبية على الأسرة وعلى المجتمع وعلى الوالدين أنفسهم.