لم يعد الشيطان يكتفي بالوسوسة لشخص حتى ينحرف أو يقع في بئر الرذيلة، لقد طور الشيطان أساليبه وأدواته في الإغواء، ورفع من سقف طموحاته، بعدما جعل غايته أن يزيح الخير والفضيلة من طريقه ليصبح الشر هو المعيار، لذا حدد أماكن سيطرته في دهاليز السياسة، وخلف الكاميرات، وفي أنشطة الاقتصاد، فلم يعد الشر يستهدف شخصا، بل بات يستهدف شعوبا بأكملها، بل يستهدف الإنسان في هذا الكوكب.

الشر السائل

كتاب “الشر السائل والعيش مع اللابديل” تأليف “زيجمونت باومان” و”ليونيداس دونسكيس”[1]، يقترب من الشر في العصر الحديث، المتخفي في التفاصيل، والساعي لأن يكون هو المعيار الذي يحتكم إليه الإنسان في تحديد سلوكه وأخلاقه.

يطرح الكتاب تساؤلات فلسفية كبرى حول طبيعة الشر في الكون، ولماذا تترك القدرة الإلهية الشر والشيطان طلقاء في الكون؟ ولماذا أصبح الإحساس بالظلم عميقا في ظل تفشي الشر؟ وهل أصبح البشر تروسا في آلة الشر الدائرة في العالم؟

الكتاب مفيد للمتصدرين للحقل الديني خاصة في مجاله الوعظي، الذين يتخذون من الشيطان عدوا، ليدرك هؤلاء أن الشر ليس بسيطا ولا سهلا، ولا تكفي الكلمات الحماسية لإزاحته من الحياة، فمواجهة الشر تتطلب إدراكا لماهيته، وتشعبه واحتلاله لتفاصيل الحياة، وإصراره على الإمساك بمفاتيح التأثير والسيطرة، خاصة بعدما خلق الشر مصالح لفئات وقوى مجتمعية باتت تدافع عن الشر باستماتة، فالشر ليس الشيطان –فقط- ولكن المنظومة الكبرى التي شيدها في المجتمع البشري، حتى تحول ملايين من البشر إلى “شياطين” وهؤلاء قد يفوقون الشيطان في بعض الأحيان[2].

الكتاب يسعى لرسم صورة لأشد مصادر الشر خطورة في الوقت الراهن، وأن يتتبع مساراته في المجتمعات الاستهلاكية المعاصرة الخاضعة للتفكك والفردية، فالشر المعاصر، أكثر رعبا وخطورة، إذ لا يمسكه البصر إلا خطفا، فهو متواري ومتخفي، وهذا مكمن خطره، ففي حالة الكمون يجد الشر من يساعده، ويتطوع لخدمته، فيظهر الشر كصديق حميم، بعدما استدعى الشر الإغواء كإستراتيجية لعمله، فالشر المعاصر يتمتع بقدرة رهيبة على الالتفاف على العوائق، بل يذيب هذه العوائق ويجعلها تتآكل من طول إحاطته لها، كما أنه مراوغ، تصعب مقاومته، لتوغله في نسيج الحياة اليومية، فهو كالسم الذي يصوره نفسه وكأنه الترياق المنقذ للحياة.

كان الشر في السابق يسعى ببساطة إلى قلب النظام الأخلاقي والأخلاقي والاجتماعي الراسخ وإبطال شرعيته، فكان شرا يمكن وصفه بأنه شر صلب ملتزم بلا أخلاق، أما الشر السائل فقد ابتكر نظرية الغواية، ويسعى لتجريد الإنسانية من أحلامها، ومبدأه “الإغواء والانسحاب”، ليخلق اليأس في ظل انعدام البديل.

الشر السائل، يتقاطع مع خصائص السوائل، من التغلغل في التفاصيل، فطبيعة السوائل تكون عاجزة عن الاحتفاظ بصورها وأشكالها المتوالية، فالسوائل في صيرورة دائمة، للتغلب على العوائق، الشر السائل يتكون ثلاثة عناصر الانتشار، والتحرر من القيود والضوابط، والخصخصة، ومن مظاهر سيولة الشر المعاصر “انتفاء الاستجابة الأخلاقية”، وهو أمر مرتبط بمثابرة الشر وقوته الدائمة، فهذا الانتفاء يستهدف تحييد القيم، حيث يجري تخدير الوازع الديني والأخلاقي، كما أن الشر السائل يثير الخوف وعدم الأمان بدلا من خلق الشعور بتحمل المسؤولية أو العمل على إعادة الاستقرار في الحياة.

هل الشر أصيل؟

هل الشر أصيل في الكون؟ أم أنه طاريء على الحياة؟ إشكالية قديمة ناقشتها الأديان والفلسفات، واختلفت حولها، إذ أن الإجابة على هذه الإشكالية يحدد طرق مواجهة الشر، وتحجيم دوره، وإزالة آثار عدوانه على الفضيلة، فالفلسفة  “الغنوصية” و”المانوية” بحثتا فكر الشر، لكنهم لم يفهموا الغاية من وجود الشر في الكون، وكأنهم يبحثون عن جنة أرضية تكون بديلا عن فردوس الآخرة، لذا لجأت الفلسفتان إلى ابتكار الأساطير لتفسير وجود الشر في الكون، بما فيها ثنائية الخالق الذي يختص أحدهما بالخير والآخر بالشر، إلا أن الفكرة المخيفة التي تقف وراء هذا التقسيم هي أن الله سبحانه وتعالي، والشيطان الرجيم قوتان متساويتان ومتعارضتان، وأن كلا القوتين لا تستطيع السيطرة على الكون منفردة، وهنا يقع المأزق الإنساني في حتمية الاختيار بين الله والشيطان.

والمقلق هو أن الفلسفتان وجدتا لهما حضورا في الفلسفات والأفكار الحديثة، فأنتجتا نقمة الإنسان على وضعه في الكون، واعتقادا بشريا أن الكون يحمل أخطاء هيكلية في خلقه، ففقد الإنسان الأمل في التخلص من الشر أو الانتصار عليه، أو حتى إضعافه، لذا فالكتاب يحذر من أن تصل البشرية إلى نقطة الشر المحض، حيث يخرج الشر من حيز الفعل المُدان، ليصبح هو المعيار للإنسان في حياته.

مشكلة الشر السائل أنه حول الرذيلة الفردية في الأخلاق إلى منفعة عامة، في حين أن الفضيلة الفردية قد لا تزيد بالضرورة من سعادة المجتمع، هذه المفارقة ترسخ الشر السائل، لذا أصبح له حراسه ومؤيدوه الساعين إلى توسيع نطاق الرذائل الفردية لتصبح سمة مجتمعية[3].

_______________________________________________________________________________________________________________________________

[1] الكتاب من ترجمة حجاج أبو جبر، وتقديم هبة رءوف عزت، ويقع في 206 صفحة، وصادر عن الشبكة العربية للأبحاث، في العام 2018 في طبعته الأولى، ويتكون من مقدمة وأربعة فصول.

[2] أشار القرآن الكريم إلى ذلك المعنى في قوله تعالى : “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (سورة الأعراف:175)، وجاء في كتب التفاسير: أن الشخص المقصود هو بلعام بن باعوراء ، وهو من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام ، ويقال: إنه أول من صنف كتابا جاء فيه أن ” ليس للعالم صانع” .

 

[3] مثال ذلك التدخين فهو رذيلة فردية، تنتشر وسط مئات الملايين من البشر، لكنها تحقق أرباحا عملاقة، بل إن بعض الدول تستثمر جزءا من أموالها في التدخين، لما يحقق لها من مكاسب ضخمة، لذا من غير المتوقع أن تقل نسبة المدخنين، بل إن رذيلة التدخين تفتح الأبواب لرذائل أخرى تقف ورائها مصالح كبرى.