ذكرنا في المقالتين السابقتين عددا من صور التلاعب في البورصة، ولم نستوعب جميع صور التلاعب، فثمة صور أخرى لم نذكرها.

كما أن هذه الصور مرشحة للزيادة والإضافة والتعديل حسب ما يتفتق عنه أذهان كبار المستثمرين؛ فقد غدا الغش صناعة محكمة، لها مفكروها ومنظروها ومطوروها.

وقد أدركت هيئات الرقابة على الأسواق المالية  هذه الممارسات المشبوهة، فنصت على تجريمها صورة صورة، ومن هذه الهيئات نظام سوق المال السعودي، فقد نصَّ على أنه يعد مخالفا لأحكام النظام، أي شخص يقوم عمدا بعمل، أو يشارك في أي إجراء، يوجد انطباعا غير صحيح، أو مضلل، بشأن السوق، أو الأسعار، أو قيمة أي ورقة مالية، بقصد إيجاد ذلك الانطباع، أو لحث الآخرين على الشراء، أو البيع، أو الاكتتاب، في تلك الورقة، أو الإحجام عن ذلك، أو لحثهم على ممارسة أي حقوق تمنحها هذه الورقة، أو الإحجام عن ممارستها.

ويدخل في الأعمال والتصرفات التي تعد من أنواع الاحتيال التصرفات الآتية:

– القيام بأي عمل أو تصرف بهدف إيجاد انطباع، كاذب، أو مضلل، يوحي بوجود عمليات تداول نشط مالية خلافا للحقيقة.

ويدخل في تلك الأعمال والتصرفات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

1- القيام بعقد صفقات في أوراق مالية لا تنطوي على انتقال حقيقي لملكية تلك الأوراق المالية.

2- القيام بإدخال أمر أو أوامر لشراء ورقة مالية معينة، مع العلم المسبق بأن هناك أمرا أو أوامر بيع مشابهة من حيث الحجم، والسعر، والتوقيت، قد أدخلت أو ستدخل من قبل طرف، أو أطراف أخرى مختلفة، لنفس الورقة المالية.

3- القيام بإدخال أمر أو أوامر لبيع ورقة مالية معينة، مع العلم المسبق بأن هناك أمرا أو أوامر شراء مشابهة من حيث الحجم، والسعر، والتوقيت، قد أدخلت أو ستدخل من قبل طرف أو أطراف أخرى مختلفة، لنفس الورقة المالية.

4- التأثير بشكل منفرد، أو مع آخرين، على سعر ورقة أو أوراق مالية معينة، متداولة بالسوق، عن طريق إجراء سلسلة من العمليات، في تلك الورقة أو الأوراق المالية، من شأنه أن يحدث طلبات فعلية، أو ظاهرية نشطة في التداول، أو يحدث ارتفاعا أو انخفاضا في أسعار تلك الأوراق، بهدف جذب الآخرين، وحثهم على شراء أو بيع هذه الأوراق، حسب واقع الحال.

5- التأثير بشكل منفرد، أو مع آخرين، بإجراء سلسلة من الصفقات كشراء أو بيع، أو كليهما معا، ورقة مالية متداولة في السوق، بهدف تثبيت أو المحافظة على استقرار سعر تلك الورقة، بالمخالفة للقواعد التي تضعها الهيئة، لسلامة السوق، وحماية المستثمرين.

بيد أن الأمر مختلف في الشريعة الإسلامية، فإننا نجد من ميزات الشريعة الإسلامية أنها  تراعي عندما تحدد الجريمة، أن يكون النص عاماً، ومرناً إلى حد كبير، بحيث ينطوي تحته كل ما يمكن تصوره من حالات، ولا يخرج عن حكمه أية حالة، والشريعة تضيق من دائرة هذا التعميم إلى حد ما في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية.

أما فيما عداها كحال جرائم الغش في الأسواق المالية وغيرها، فالتعميم في النص يأخذ حده كما في مثل قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] تحريماً لجريمة التجسس، ومثل قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ومثل قوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ} [الشعراء: 181] ، ومثل قوله: {لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] ، ومثل قوله تعالى : “{  وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

ومثل قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] حيث نلحظ تعميم تحريم أكل أموال الناس بالباطل، مهما تعددت صوره، ومهما استحدثت له من ممارسات.

قال القرطبي: “المعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك”.

وقال الزمخشري: “بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا“.

ويستنتج شيخ الإسلام ابن تيمية ضابطا عاما للمكاسب المحرمة فيقول : ” وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

“عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم دقه وجله، مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الربا والميسر وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي، مثل بيع الغرر وبيع حبل الحبلة وبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والبيع إلى أجل غير مسمى، وبيع المصراة، وبيع المدلس، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، والمحاقلة، والنجش، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وما نهى عنه من أنواع المشاركات الفاسدة، كالمخابرة بزرع بقعة بعينها من الأرض”.

وميزة هذا التعميم: أن حصر الصور يحتاج  دائما إلى  إعادة فتح القوس من جديد للإضافة والتعديل كلما استحدثت صور جديدة ، وإذا فات الحصرَ صورة أو صورتان، خرجت هذه الصور عن التجريم؛ فإنه لا جريمة إلا بنص؛ وبذلك يتمكن المستثمرون من التقافز بين النصوص، وارتكاب الصور غير المنصوص عليها، أو ارتكاب المنصوص عليها مع تعديلها بحيث لا تقع تحت طائلة النص، إلى أن يتنبه المشرع، فيقوم بسد هذه الفجوات التشريعية بعد أن يكون قد ضاع ما ضاع من أموال الناس بسبب هذا القصور التشريعي.

لكن التحريم باللفظ العام، والنهي عن المكر والخديعة والغش  عموما، لا يسمح بتفلت صورة منها. كما أن التعميم يجعل الأمر يدور مع مقصده وعلته وحِكمته، وليس مع صورته، فمثلا رأينا تحريم السنة للنجْش،  وهو الزيادة على ثمن السلعة ممن لا يرغب في الشراء، لكن ماذا إذا كانت السلعة تباع  بثمن بخس دون ثمن المثل، فإذا حدث ضغط بيعي من الكبار على سهم ما لخفض سعره عن ثمن المثل، فهل يجوز استخدام النجش لرفع سعر ثمن السهم حتى يصل إلى ثمن المثل. يقول ابن العربي المالكي : “ولو أن رجلاً رأى سلعةَ رجلٍ تباع بدون قيمتها , فزاد فيها لينتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشاً عاصياً بل يؤجر ذلك على نيته ” .   وهذا الذي ذكره ابن العربي  تابعه عليه بعض العلماء، وخالفه فيه غيرهم، والمقصود أن الفقهاء لا ينظرون إلى  الصور بمعزل عن حِكمتها.