ربما تفكر الواحد منا وهو يقرأ لمختلف الكتّاب، وسأل نفسه قائلاً: يا ترى! لماذا يختلف الكتاب في طرائق كتابتهم؟ ولماذا يتفاوتون في مقدار ما يجيدون وصفه وما لا يحسنون؟ وما الذي يجعل من الجاحظ الذي نقرؤه ذلك “الجاحظ” الذي نعرفه باستطراده وسبكه وسخريته واكتنازه بالمعارف، وما الذي يجعل دستويفسكي هو دستويفسكي الذي نقرأ في تلافيف كلامه معرفة عميقة بالنفس الإنسانية وزواياها المظلمة؟

وهذا سؤال يطول جوابه، ويتنازع النقاد والمتذوقون طرف الحديث فيه دون الوصول إلى نتيجة..

وليس تهرباً من الجواب أن يقال: إن ثمة أموراً كثيرة ربما يصعب حصرها، هي التي تجعل من فلان الكاتب “فلاناً” بشحمه ولحمه وسمات قلمه المميزة له عن غيره..

ولكن من المفيد والجامع أن يقال: إن نتاج الكاتب ثمرةُ خبراته.

فألفاظه وتراكيبه ثمرات لخبرة طويلة -أو قصيرة- في اختزان المفردات واستعمالها، واطلاع من خلال القراءة والسماع على استعمالات الآخرين للمفردات والتراكيب.

وأفكاره ثمرات لخبرات ذهنية وعقلية ونفسية، من تأمل وتفكر واطلاع على أفكار الناس، يدخل كل ذلك في المختبر الخاص بالكاتب فيخرج على هيئة نص مرقوم.

وذلك يشكل كائنا فريداً يكاد يستحيل أن يتطابق مع غيره.

وثمة خبراتٌ يتعرض لها الكاتب في رحلة تكوينه، وهي قسمان: خبرات يتعرض لها الكاتب قدراً دون سابق تخطيط، ولا دخل له في حدوثها، وأخرى يتعرض لها قصداً بعد الترصد والسعي، والنوع الأول أكثر عدداً وتأثيراً، وهو ما يشكل الجانب “المسيّر” من الإنسان، ويشكل الثاني الجانب “المخيّر”.

فلا أحد يختار دين والديه، ولا مكان ميلاده، ولا شخصية جدته، ولا مبلغ عائلته من الثقافة والمعرفة، أو المال والجاه، أو النفوذ والسلطان، ولا يملك أحد أن يقرر مقدار رزقه ولا مدة أجله، ولا أحد يعلم ما سيفعل غداً، ولا بأي أرض يموت، ولا مبلغه من السعادة والشقاء، ولا أحد يتحكم تحكما كاملا بالخواطر التي تمر عليه، ولا تصرفات الآخرين تجاهه، ولا أحد يمتلك حصانة تجاه الأقدار وتقلباتها، والسنن الكونية وسطوتها، ومفاجآت الحياة التي لا تنتهي ولا تود أن تنتهي!

ولا أحد يختار صفاته الجينية، ولا معظم أوصافه الفارقة التي تشكل قدرا ضخما من “هويته”، ولا هو يختار طوله ولونه وسحنته ومقدار المفردات التي يختزنها دماغه في طفولته، ولذلك كله أثره الحقيقي فيه ككاتب.

ولكن الإنسان ليس مسيراً بالكلية في كل شيء؛ فهو مزودٌ بمجموعة من الأوراق، وبوسعه لو شاء أن يستخدم تلك الأوراق على نحوٍ يصنع فارقاً ضخماً في حياته، هو الفارق الذي يمدح عليه ويقدح، ويثاب أو يعاقب. وهو يمتلك العقل الذي يمكنه أن يدبر به شؤونه، ويتعرف به إلى ذاته، وإلى ربه، وإلى هذه الحياة.

وقد يفيد الكاتبَ أن يعرّض نفسه قصداً إلى تجارب معينةٍ تثري حياته وترفع من أسهمه ككاتب.. تلك التجارب التي تصنع “خبرات” ترفع من لياقة الكاتب وتجعله أكثر تمكناً حين يمسك بالقلم ليكتب.

ويجب أن يكون الكاتب ذكياً حين يختار الإمكانات والجدارات التي يريد بناءها. فليس المقصود أن يعنت المرء نفسه في سبيل اكتساب خبرة مكلفة، وهو يملك أن يكتسب خبرةً أكثر منها جدوى وأعمق منها أثراً وأقل تكلفة، بل المقصود اكتساب الخبرات التي يحتاجها الكاتب لتكون تجربته الحياتية أثرى وأكثر تعقيدا وعمقا، وأكثر اكتظاطا بالأبعاد الإنسانية.. إن تجربة زيارة مستشفى مجاوراً للدار -مثلا- قد تكون أبلغ أثراً في النفس من سفرٍ يكلف الكثير من المال والجهد والوقت. وإن رحلةً متقشفة إلى بلد رخيص فقير قد تكون أبلغ جدوى من رحلة مرفهة إلى مزار سياحي مشهور.. وإن المكث في مكتبة عامة لقراءة ما فيها من مراجع قد يكون أوفر للمال وأبلغ في الفائدة من محاولة بناء مكتبةٍ شحصية في المنزل.

وهذه الخبرات التي يحتاجها الكاتب تنقسم إلى قسمين: خبرات حياتية، وخبرات كتابية.

أما الخبرات الحياتية فهي مجموع التجارب التي تسهم في تكوين شخصية المرء، وتثري شعوره وتوسع من نظره إلى الحياة.. كما تزوده ببعض السمات التي يحتاج إليها الكاتب..

تجربة العيش في روسيا وأميركا لدى ميخائيل نعيمة، وتجربة إدمان القمار لدى دوستويفسكي، وتجربة السجن والتشرد لدى مالكوم إكس، وتجربة الاضطرار إلى تحمل مسؤولية العائلة قبل انقضاء وقت الصبا لدى الطنطاوي، وتجربة العمى لدى طه حسين، وتجربة العمل السياسي لدى بيغوفيتش، وتجربة السجن لدى ياسين الحاج صالح، وتجربة النفي وسحب الجنسية لدى عبدالرحمن منيف، وتجارب كثيرة من هذا القبيل ومن كل قبيل آخر،  تطبع آثارها في وجدان المرء ويظهر وجهها سافرا في مكتوبه.

وأما الخبرات الكتابية فهي تلك التفصيلات الصغيرة الكثيرة المتراكمة من تجربة الكاتب في حقل القراءة والكتابة.. وبتراكم الملاحظة والتجربة تتكون تجربة الكاتب وتتبلور شخصيته الأدبية والأسلوبية.

ولا يمكن لهذه الخبرات أن تتراكم بما يكفي لتكوين شخصية الكاتب كما ينبغي إلا مع طول التفرغ للكتابة وطول معاناتها ومراغمتها، وشيئا فشيئا تجتمع نقاط الخبرات لتصنع سيلاً يمكنه حمل زورق أسلوب الكاتب ليبدأ حينها رحلته الحقيقية مزودا بكثير من الخبرات التي نتجت عن كثير من الخيبات.

وعلى الكاتب أن يغوص في أعماق ذاته، ويستخرج ما تيسر من خبرات الحياة التي مرّ بها، ويكتبها، ويتأمل فيها، ويحولها إلى نصوص مكتوبة، أو يفيد منها في رحلته الكتابية.

أختم بتكرار القول الذي قيل على مدى التاريخ بمعنى واحد وألفاظ مختلفة: إن كل واحد منا معاشر البشر يمر بتجربة حياةٍ تستحق أن تكتب، تلك هي الخبرات الحياتية، ولكن الذي لا يملك من الخبرات الكتابية ما يكفي؛ لن يملك أن يحول خبرته الحياتية إلى نصوص تستحق أن تُقرأ! كل بني آدم أديب، ولكن قلة منهم من يكتمل، أولئك هم الكتاب الذين نقرأ لهم.