كثيرا ما نسمع عن تجاوزات المتحاورين على وسائل التواصل الاجتماعي حيث لا رقيب إلا من ضمير المرء ومراقبته لله تعالى، غير أنني ما كنت أتخيل مستوى التدني الذي يصل إليه البعض ولا مقدار التخلي عن كل معايير الإنسانية والعقلانية حتى وقعت بالصدفة على منشور تتحدث صاحبته عن حملة لدعم النقاب والمنتقبات في مواجهة قانون مقترح لتجريمه، سباب متبادل وصخب ضاعت معه الفكرة الأصلية وكل الأفكار الفرعية التابعة ولم يبق إلا ما يؤذي العين والسمع.

هذا الأمر وقعت ضحيته مرة أو مرتين ثم فطنت إلى الوعيد الشديد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأصابني من هذا غم شديد. فقد روى البخاري من حديث  عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أمه.رواه البخاري– حديث:‏155‏

نصادف على مواقع التواصل الإجتماعي كثيرا من المستفزين الذين يدفعونك دفعا للرد عليهم وبعضهم أناس لا خلاق لهم ربما ترد على واحد منهم ردا علميا أو تحتد فقط من كثرة الغيظ فتصف الفكرة بأنها واضحة لا ينكرها عاقل أو شيئا من هذا القبيل فتجده يفتح بابا من القاذورات لا ينغلق.

وقد تطرح على صفحتك الشخصية فكرة من الأفكار أو تنشر رأيا لواحد من الناس فتلقى هجوما شخصيا لا علاقة له بالفكرة ولا رابط بينه وبين ما كتبت أو نشرت.

وقد يقول قائل مفتخرا وأنا أيضا قادر على مجاراته والرد عليه كلمة بكلمة وقذفا بقذف، بل ولن تعدم من يستدل بآيات القرآن على جواز هذا ومشروعية الانغماس فيه، وكثيرا ما سمعنا قول الله تعالى { لَا يُحُبُّ الله الجَهْرَ بِالسُوْءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ” مبررا لوصلات من السب والسب المضاد.

وهنا تكمن المشكلة في أكثر من وجه:

الأول: إشاعة الفاحش من القول في وسائل التواصل الاجتماعي واستسهال النطق به وسماعه وانتشاره بين المسلمين دون اعتبار لأطفال المسلمين وشبابهم الذين ينغمسون وسط هذا المستنقع من سن مبكرة.

الثاني: المغالاة في السباب والمزايدة في الخصومة يريد بعضهم أن يعلو على بعض.

الثالث: ضياع الفكرة الأولى والتحول إلى مسبة لا خير فيها لأحد وبدلا من الخلاف حول الفكرة يكون الخلاف الشخصي حول الأفراد.

الرابع : حين ينجح خصمك في أن يلزمك أخلاقه ويجرك إلى ساحته التي قد تناسبه ولا تناسبك لا دينا ولا خلقا.

والخامس: وهو الأهم حين يعرض المرء نفسه للوقوع في هذا الباب الخطر من الوعيد “باب أكبر الكبائر” حين تنزلق المناقشات في وسائل التواصل الاجتماعي فتصل إلى الأب والأم والأعراض والحرمات.

فهل من سبيل نحو الخروج من هذه الحلقة المفرغة الآسنة؟

على المصلحين وقادة الرأي ومشاهير التواصل ممن يرجون الله واليوم الآخر أن يبدأوا بأنفسهم ويقدموا القدوة والنموذج في هذا الباب ولمن أراد الإصلاح فإنني اقترح بعض المقترحات التي ربما تصلح لأن تكون لبنة يتم البناء عليها.

أولا: نحرص دائما على الالتزام بمنهج الإسلام القويم في الدعوة إلى الحق الذي نؤمن به  بالموعظة الحسنة فالكلمة الطيبة صدقة.

ثانيا: نداوم على مدح من نحدثه أولا قبل الدخول في التعليق بالنقد أو النقض فلا أحد يحب رد كلامه عليه، فإذا غلفته بشىء من المدح المحبب إلى النفوس فلربما يكون أدعى للقبول.

ثالثا: أظهر القبول للمخالف  ثم استدرك ولقد كانت حكمة غالية من أستاذ عظيم يناقش طلاب الماجستير والدكتواره فيبدأ بقول: “يا بني معك كل الحق ….  ولكن” ولو استمعت إلى ما بعد لكن  لتساءلت أين الحق الذي كان يتحدث عنه!

رابعا: لا ندخل إلى النقاش بروح الذي يملك الحق المطلق قبالة الباطل المطلق فلا أحد يملك الحقيقة الكاملة. بل خذ من كلام الناس ودع، واسمح لهم أن يأخذوا من كلامك ويتركوا. فهذا أدعى إلى الالتقاء على نقاط جامعة.

خامسا: اجعل هدفك دوما الوصول إلى الحق ولا تكابر أبدا إذا بدا لك خطؤك أن ترجع إلى الحق فهو أحق أن يتبع.

سادسا: لا تسمح للحوار أبدا أن يتحول إلى الشخصنة، بل ليكن الخلاف دائما يدور حول الفكرة واسحب محدثك بلطف بعيدا عن الأشخاص كلما جنح الى ذلك.

سابعا: علينا أن نتحلى بالوعي الكافي لندرك أولوياتنا وسائل التواصل الاجتماعي ، فقد اعتاد الناس على الخلط بين السفاسف والمعالي فالأمور الأهم التي تشغل بال الأكثرية أهم من قضية شخصية قد لا تهم إلا صاحبها، وقضية تمس جوهر الدين والأخلاق أهم من تلك التي لا تعدو أن تكون مظهرا أو شكلية من الشكليات.

ثامنا : علينا أن نفرق بين ناقصي الوعي أو أصحاب المصالح الشخصية وبين المأجورين الذين يتقاضون رواتبهم من الفسدة والقتلة والمجرمين، فالأوائل ربما يفيد معهم حديث الدلائل والأرقام أما الآخرون  فخير ما نفعله أن نميت حديثهم بالتغافل عنه وتركهم ليموت ذكرهم.

تاسعا: أعتقد أن الانسحاب من  الحديث مع ترك الأثر الطيب لدى محدثك بدلا من اتهامه في نيته او عقله او دينه او عرضه أفضل أثرا  وأكثر أجرا وابقى عند الله ذخرا.

عاشرا : هناك فرق دائما بين من يطلب الحق للحق وليس له فيه منفعة فهذا لا نبخل عليه بوقت ولا جهد،  أما من ينصر الباطل مع علمه به فقط طلبا لمغنم أو درءا لمغرم

فيكفيه أن يعلم أن المغرم في الدنيا والآخرة هو في وقوفه في صف الباطل وشواهد الحاضر لا زالت شاخصة للعيان

وأخيرا إذا حرصنا على ذلك ومع هذا حدث تجاوز ـ ولا أظنه يحدث إلا نادرا  ـ فعلينا أن ننسحب بهدوء ولا ننجر مع المسئ نحو الهاوية وليكن نصب أعيننا أننا في غنى عن عقوبة أكبر الكبائر ولنحتسب ذلك عند الله وما عند الله خير وأبقى.