من أمتع ما يمضي القارئ الوقت في قراءته: السير الذاتية،  التي توثق حياة أناس من الناس الذين أضافوا إلى هذه الحياة شيئاً حسناً أو سيئاً، من الزعماء والعلماء والشعراء والقصاص وأصحاب التجارب المختلفة.. ففيها كثير من المتعة، والجمال، ويعثر القارئ في أثنائها على الكثير مما يلفت النظر ويثري الفكر.

وإن كان التاريخ هو حديث الناس عن الناس، فإن السير الذاتية جزء من التاريخ، وهو يحوي حديث الناس عن أنفسهم. وقارئ السير الذاتية المحب لها، يجد نفسه مبحراً في طول التاريخ وعرضه، وفي سطح القضايا وعمقها..  ويتنقل بين أركان الأرض الأربعة.

فبوسع القارئ أن يماشي أسامة بن منقذ في “الاعتبار” وهو يدرس المجتمعات المسيحية التي طرأت في بلاد الشام لعقود من الزمن قبل أن تكر إلى أوروبا، أو يمارس رياضته الخطرة: اصطياد الأسود، أو يتجول بين أكثر من بلاطٍ إسلامي مناوئ لبلاط إسلامي آخر في وقت حرج من تاريخ المسلمين.

وبوسع القارئ أن ينتقل من المشرق الإسلامي ومشكلاته إلى المغرب: ليعيش مع عبدالله بن بلقين، آخر ملوك بني زيري في غرناطة حياةً ملأى بالتحديات والعداء الشديد مع المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، ثم هزيمته أمام قوات أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي حمله من قصره الباذخ في غرناطة إلى حياة المنفى في أغمات ببلاد المغرب.

وبوسع القارئ أن ينتقل تسعمائة عام دفعة واحدة ليجالس هيلاري كلينتون وهي تحكي في “خيارات صعبة” كيف عاشت في البيت الأبيض امرأةً لرئيس الولايات المتحدة، ثم كيف عادت إليه وزيرة للخارجية، ويتنقل معها بين مختلف عواصم العالم، من واشنطن إلى موسكو إلى القاهرة التي تزعم هيلاري أنها رأت فيها ثورةً نجحت دون قصد!

وربما سئم القارئ السياسة وأهلها؛ فقرر أن يجالس الأدباء، فإذا هو يستمع إلى محمد كرد علي وهو يتناول أحداث زمانه المتشابكة ويحكي بطموح متواضع عن “المقتبس” وما تحصده من قراءات ضئيلة في طول العالم العربي وعرضه.

أو ربما قرر القارئ أن يرافق ميخائيل نعيمة وهو ينحدر من قريته في جبل لبنان إلى مدرسته في فلسطين، ثم إلى روسيا طالباً جامعياً يصارع نفسه بين العفة والانحلال، ثم إلى أميركا في رحلة أرادها قصيرةً وأرادها الله طويلة!

وقد يحب القارئ أن يدع ميخائيل في نيويورك بزحامها الأعجمي لينتقل إلى القاهرة بزحامها العربي، ويطالع ما كتبه طه حسين في “الأيام” من خيباته طالباً كفيفاً في الأزهر، ومغامراته طالباً مبتعثاً إلى باريس.. ويستلذ -ربما- بتلك السوداوية البليغة، وبذلك الاكتئاب الفصيح الذي يتقلب معه مزاج القارئ كلما قلب صفحةً من صفحات الكتاب.

ولربما أحب القارئ أن يشهد مسيرة حياةِ رئيس مثل أنور السادات، أو وزيرٍ مثل غازي القصيبي، أو روائي مثل غابرييل ماركيز، أو سجين مثل ياسين الحاج صالح، أو ممثل مسرحي مثل نجيب الريحاني، أو ممثل سينمائي مثل تشارلي  شابلن، أو عالم فقيه مثل علي الطنطاوي، أو مفكر باحث مثل زكي نجيب محمود، أو رأس شركةٍ شهيرة مثل ستيف جوبز، أو غيرهم من كل صنف ولون من أصناف البشر!

ويجد المرء إذ يقرأ السير الذاتيةَ كثيراً من اللطائف: فهو يضيف إلى عمره أعماراً من خلال استنشاق رحيق أعمار الآخرين، ويطلع على وجوه مختلفة من الحياة الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية، والتقلبات السياسية، ويلحظ تطور الأعراف والأزياء والأذواق وطرائق الناس التي تواضعوا عليها في طرق معيشتهم.

ولكن القارئ -على الرغم من كل ما يجتني من الثمرات ويجمع من السنابل، معرض لكثير من القنابل التي يمكن لها أن تنفجر في وعيه فتسبب أضراراً أو تلحق أذى!

فالسير الذاتية من مظان الأكاذيب الكبيرة والصغيرة، المقصودة وغير المقصودة، وهي نقلٌ لمزيج من مكنون الوجدان وآراء العقل وذكرياتٍ قابلة للتحوير والتحريف والنسيان والفجوات المملوءة بما يوافق هوىً.. سواء أكان ذلك بقصد حسن أو غير ذلك!

وكثيراً ما يزعم الكاتبون أنهم يذكرون الحقيقة! ولكن الحقيقة -كما يعلم الجميع- أمرٌ مختلف عن مجموع الحقائق! فبوسع الحقيقة أن تموت حين يُسلط الضوء على حقيقة دون أختها، أو حين يتم ترتيب بعض الحقائق أو تأويلها أو التغاضي عنها بحيث تتكون في ذهن القارئ صورة متكاملة متماسكة عن قضية ما، لكنها صورة غير صحيحة!

والسائد أن يكتب المرء سيرته الذاتيةَ، فيجد الكاتب نفسه مضطراً -بحق أو بغير ذلك- إلى إخفاء كثير مما تقتضي الأمانة أن يذكره إن كان يريد تقديم حياته كما هي إلى الأجيال القادمة، هذا يقتضي شجاعة غير عادية، أو تهوراً، أو عدم مبالاة بالسمعة، سمه ما تشاء! ويمكن للمرء أن يطالع اعترافات القديس اغسطينوس وجان جاك روسو وجلال أمين وبول أوستر وغيرهم، ما يجعلك تتمنى لو لم يقولوا بعض ما قالوا، وتفضل لو أنهم أسدلوا الستار على بعض ما اقترفوا، إذ الصراحةُ مثل كشف أجزاء من الجسد، تحسن أحياناً، وتقبح أحياناً.

ولا ينتظرنّ القارئ أن يقدم له الكاتب عن نفسه تقريراً موضوعياً، إذ العادة أن الكاتب إنما يتحدث عن نفسه بنفسه، وينحت تمثاله بيده، ويقدم لنا حياته من زاويته الشخصية، وهي زاوية ضيقة مهما اتسعت، ناقصة مهما اكتملت، وعلى القارئ إن أحب السلامة من آفات قراءة السير الذاتية أن يضع ما يقرؤه موضع عدم اليقين، وأن يلاحظ -ما أمكن- ما يقوله أصدقاء الكاتب وخصومه عنه، وأن يقارن تلك النسخة من حياة الكتاب بنسخ أخرى، لعله أن يصل إلى نسخة أقرب إلى الحقيقة!