السؤال الذي يطرحه العنوان هو سؤال مهم، لأنه يتصل بأمرين جديرين بالاعتبار؛ وهما: تصحيح المعنى السائد لمفهوم “الفقر”.. وتحديد المنظور الصحيح الذي ينبغي من خلاله قياس مدى تقدم مجتمع ما أو تأخره.

 

في الأمر الأول، فالشائع أن نفهم “الفقر” باعتباره شيئًا ماديًّا يتصل بتوافر الإمكانات المادية أو عدمها.. وبالتالي فنحن نصف الشخص أو المجتمع بالفقير، عند عدم توافر مستوى معين من الاحتياجات المادية.. وهذا أمر صحيح؛ لكننا نود هنا أن نشير إلى زاوية أخرى لمعنى “الفقر”، وهي الزاوية المعنوية لا المادية فحسب.

فالشخص يكون فقيرًا أيضًا حين يخلو من صفات معينة، بها يكتسب “غناه” الحقيقي، وبها يكون إنسانًا فعلاً.. فإذا كان الإنسان روحًا ومادة؛ فإنه بالروح يوصف بالإنسانية، وبالأخلاق يترقى في مدارج الكمال، وبالصفات النبيلة يكون إنسانًا.. أما إذا خلا من ذلك، فلن تنفعه المادة، وستكون عليه وبالاً..

والمجتمع أيضًا يصدق عليه ما يصدق على الفرد.. فهو “مجتمع غني” ليس فقط بتوافر الإمكانات المادية ووسائل الترفيه والإمتاع؛ وإنما بالأساس حين يكون نابضًا بكل يتصل بالإنسانية من معان وقيم وأخلاق؛ بحيث يكون مجتمعًا تراحميًّا.. يرعى فقراءه وذوي الحاجات فيه.. لا يطغى فيه الأغنياء ولا يضيع الفقراء.. يَنفُذ القانون فيه دون استثناء.. يشعّ حرية لأبنائه ولا يحجر على رأي.. يأمن فيه الناس على حرماتهم ويتمتعون بحقوقهم.. إلى غير ذلك من قيم ومبادئ.

وقد أشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لهذا المعنى المهم في النظر للمجتمعات، حين قال رضي الله عنه: “تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تَخْرَبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ ، قِيلَ: كَيْفَ تَخْرَبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ؟ قَالَ: إِذَا عَلا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وَسَادَ الْقَبِيلَ مُنَافِقُوهَا” (أخرجه ابن أبي الدنيا في “العقوبات”). فقد تكون القرى- أو المجتمعات- عامرة من حيث “المادة”، لكنها خربة من حيث “المعنى”.. ولا شك أن المقياس المعنوي والأخلاقي والإنساني هو الأهم.

الغنى المادي ليس كافيًا

والسؤال الذي نحن بصدده: ما هو الفقر الحقيقي في البلاد؟ هو بالأساس عنوان مقال للإمام محمد عبده، رحمه الله، كان نشره بجريدة “الوقائع المصرية”؛ التي تولى رئاستها عام 1880م، وحوَّلها من مجرد جريدة تنشر القوانين واللوائح الرسمية إلى مدرسة صحفية تهتم بالتثقيف والتوعية، بل وبتوجيه النقد لمؤسسات الدولة، بجانب أنها كان لها دور بارز في تحرير أسلوب الكتابة العربية والارتقاء بها، وإبراز جيل من الكتاب والمحررين كان لهم دور حيوي في تشكيل الوعي العام وقيادة المجتمع.

حتى إن الشيخ محمد رشيد رضا ليشير بإعجاب إلى هذا الدور الكبير الذي قام به أستاذه محمد عبده في ثلاثة اتجاهات، من خلال “الوقائع المصرية”؛ فيقول: “إن في هذا لعبرة لأولي الألباب! صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين، فيشرف من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها، ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون؛ ثم يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوّم من أخلاقها، ويصلح ما فسد من عاداتها، بالوعظ الصحيح، والإرشاد الحقيقي؛ ويطل من نافذة ثالثة على الجرائد العربية فيعلمها حسن التحرير، ويربيها على الصدق في القول، ويجعل للصادق منها سلطانًا نصيرًا، وتأثيرًا مأثورًا؛ يا لها من عمامة شرفت برأس صاحبها حتى حسدتها الطرابيش، وهابتها التيجان والبرانيط” (“المنار”، 2 أغسطس 1905م).

نعود فنقول: إن الإمام محمد عبده أوضح في مقاله أن البلاد قد تكون “غنية مثرية، لا تفنى كنوزها ولا تفرغ خزائنها.. ولكن ليس كل هذا بكافٍ في الغنى والثروة والعزة؛ وإن كان من كليات أسبابها؛ بل لابد أن ينضم إليه حسن استعمال هذه الأسباب الجليلة، ورشاد الرأي في استخدامها ليوضع كل شيء في موضعه الطبيعي، وتستعمل كل وسيلة لما يناسبها؛ فإن ضلت الآراء وساء الاستعمال فهذا هو الفقر المدقع الذي يعسر علاجه” (نقلاً عن “تاريخ الأستاذ الإمام”، لمحمد رشيد رضا، 2/ 143- 150).

ثم يتساءل محمد عبده: “ماذا تصنع الوسائل المهيأة إذا لم تجد من يستعملها فيما هي وسيلة له؟ وأي شيء تفيد الفرص إذا لم تصادف من ينتهزها؟ وهل يقطع السيف الصقيل بلا بطل؟ كلا؛ فما فقر البلاد إلا قلة الراشدين فيها، وما غناها الحقيقي إلا كثرة المهتدين”.

إذن، فالوسائل المادية وحدها لا تصلح مقياسًا للحكم على بلد ما، من زاوية الغنى أو الفقر.. وليست وحدها كافية لعمران المجتمع.. لأن الإنسان هو الأساس، ولأن القيم واستقامتها والآراء وصوابها هما الضامنان لأن تُستخدم الوسائل فيما جُعلت لها، ولا تنحرف بالإنسان إلى الهاوية.

مقياس غنى المجتمعات

ثم ينحو محمد عبده في مقاله منحى اجتماعيًا؛ على عادته في مقالاته بـ”الوقائع المصرية”، والتي هي أدل على منهجه الإصلاحي- بوسائل التربية والتعليم- من مقالاته لاحقًا في “العروة الوثقى” فيبين أن “أولئك الذين هم غنى للبلاد إذا وُجدوا، وهم فقرها إذا فُقدوا” هم قلة في البلاد موضحًا أن ثمة مقياسًا أو برهانًا على كلامه هذا، وهو أن “الرجال تُعرف بالآثار الثابتة في البلاد التي تدوم بدوامها أو على الأقل أجيالاً وأحقابًا، وأن ذوي الآثار الحقيقية في بلادنا التي أثمرت ثمرًا جناه أبناء الأوطان وتمتعوا بلذته مع الثقة بدوامه هم قليلون جدًّا”.

أي أن نهضة مجتمع ما- أو غناه- لا يكون بتوافر رجال فيه ذوي كفاءة وخبرة وأثر جليل، وإنما بوجود “حالة” من النهوض تسمح بدوام آثار هؤلاء الرجال، وباستمرار أعمالهم لأجيال ولأحقاب تالية.. وهذه رؤية جديرة بالاعتبار؛ فالتقدم يقاس بحالة المجتمع ككل وبمداها الزمني، وليس بنبوغ بضعة أفراد منه.

ثم يتطرق محمد عبده لحالة الزراعة والصناعة والتجارة، وصولاً إلى حالة “رجال العلم ومصابيح الفضل”.. مبينًا أن النابغين في هذه المجالات عددهم قليل جدًّا.. “وليس في البلاد أساس حقيقي يوجب أن يتأثرهم من بعدهم؛ حتى لا تنقطع سلسلة الصالحين”.

ويوضح محمد عبده أن السبب في ذلك، هو “عدم سريان روح التربية الشرعية العقلية”.. كاشفًا عن أنه لا يوجد “مانع يحول دون وضع ذاك الأساس: أساس المجد والعزة؛ أعني به أساس التربية الحقة.. سوى الغفلة وانحطاط همم الأفراد من الناس الذين يجب عليهم طلبه والمحافظة عليه”.

ثم يتوجه محمد عبده بالخطاب إلى الأغنياء ومن بيدهم الثروات، مبينًا أن عليهم واجبًا تجاه وطنهم ومجتمعهم؛ بأن يبادروا لذلك ودون انتظار دور الحكومة.. ولعله بذلك يشير إلى ما استقر في مفاهيمنا المعاصرة من ضرورة وجود “دور اجتماعي” لأصحاب رءوس الأموال الكبيرة؛ كجزء أساسي من المجتمع المدني، الذي هو شريك فاعل في نهضة المجتمع والرقي به.. وبتعبير محمد عبده: “سُنة مَن قبلنا ومن معنا في عصرنا أن يسعى أفراد الأمة ونبلاؤها في جمع الكلمة، وبذل الدينار والدرهم، وتعاضد الأفكار والأعمال على تحصيل ما يطلبونه بأسبابه ووسائله الحقيقية، بدون توان في العمل ولا فتور في الهمم”.

ثم يقول: “على الأغنياء منّا، الذين يخافون من تغلب الغير عليهم، وتطاول الأيدي الظالمة إليهم، أكثر من الفقراء، أن يتآلفوا ويتحدوا، ويبذلوا من أموالهم في سبيل افتتاح المدارس والمكاتب واتساع دوائر التعليم؛ حتى تعم التربية، وتثبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك، وتنمو روح الحق والإصلاح، وتتهذب النفوس، ويشتد الإحساس بالمنافع والمضار؛ فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم؛ فتكون عند ذلك معهم في رتبة المساواة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وعلى الحكومة في جميع ذلك أن تسن قوانين التعليم، وتلاحظ أحوال المعلمين والمتعلمين”.

خلاصات

فهنا، يؤكد الإمام محمد عبده عدة أمور مهمة، نحن بحاجة إليها في تصحيح المفاهيم، وفي رسم خطة للإصلاح والنهوض.. وهي:

  • أن الغنى المادي في البلاد ليس بكافٍ في تحقيق العزة والثروة.. بل لابد أن ينضم إليه حسن استعمال هذه الأسباب الجليلة، ورشاد الرأي.
  • أن ضلال الآراء وإساءة الاستعمال هو الفقر المدقع الذي يعسر علاجه.
  • أن فقر البلاد إنما هو في قلة الراشدين فيها، وغناها الحقيقي في كثرة المهتدين بها.
  • أن مقياس غنى مجتمع ما هو وجود آثار صالحة دائمة به، وليس وجود أفراد نابغين قليلي العدد.
  • أن الأغنياء عليهم “دور اجتماعي” تجاه أوطانهم.. في تكامل مع دور الحكومات.
  • أن التربية الشرعية العقلية؛ بما تعنيه من نشر العلم، وإشاعة الأخلاق، وتهذيب النفوس، وتنوير العقول.. هي أساس الإصلاح.. بحسب ما تدل عليه كتابات محمد عبده قبل “العروة الوثقى” وبعدها.

وما أحرانا أن ندرك هذه المعاني المهمة لـ”فقر البلاد”، وما يتصل به.. وأن نسعى بجد لتحقيق “الغنى” بمعناه المادي والمعنوي..!