من الأمور المحيرة، التي يسأل عنها الكبار والصغار، استجابة  الله للـ  أدعية ، قال تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60].

يتساءلون : وعَد الله إذن بإجابة الدعاء فلماذا لا نرى ذلك؟ لماذا ترتد أيادينا صفرا في أكثر أدعيتنا؟

شباب تحثهم في أثناء المذاكرة والامتحانات أن يدعوا بالنجاح الكبير، فيدعوا مع مذاكرتهم، ثم لا يجدوا ما دعوا به، فبعض منهم يخيل إليه أن إجابة الدعاء إذن ليست حتمًا لكل داع، فيتركون الدعاء، أو يمارسونه على أنه شيء من طقوس العبادة ، لا على أنه التماس من الله تنتظر إجابته

تحث طفلك وأنت تُعلِّمه الصيام على أن له أدعية لا ترد، فيجتهد في الدعاء للمظلومين أن ينتصروا، وللظالمين أن ينكسروا، وهكذا يفعل كل يوم من رمضان، ثم ينتظر الاستجابة، فيجد الظالمين وقد عرفهم بأسمائهم يزيدون استكبارا وعلوا، ويجد المظاليم المستضعفين، وقد وعاهم وعاينهم يزيدون ضعفا وإذلالا!

فيسألك : فأين الدعاء الذي حدثتني أنه يستجاب؟ فيترسخ في ذهنه ونفسه أن الدعاء ليس محتوم الإجابة كما أفهمتَه، فينشأ متراخيا  في الحرص على الدعاء !

تقول له ولها ولهم ولهن : ليس كل الناس يستجاب له؛ إنما يتقبل الله من المتقين، وتحكي لهم ما ذكره العلماء من شروط إجابة الدعاء، وتبين لهم ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس، إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام،  وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟» . [ رواه مسلم].

فتأتيك الإجابة جاهزة : دعك ممن نبت لحمه بالحرام، وغذي بالحرام ، فقد علمنا سبب إعراض الله عنهم، وليس عن هؤلاء نسأل، ولكننا نسأل عن دعاء الصالحين الوقافين عند حدود الله، ممن يتحرون اللقمة الحلال، والجرعة الحلال، والملبس الحلال!

للإجابة ثلاث صور

فتقول لهم :  قال ابن الجوزي: اعلم أن الله عز وجل لا يرد دعاء المؤمن، غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة، وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة، فيعوضه عنه ما يصلحه، وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن لا يقطع المسألة لامتناع الإجابة، فإنه بالدعاء متعبد، وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض. اهـ [كشف المشكل].

وتزيده بما روى البخاري أن عمر بن الخطاب قال لعامله :” اتق دعوة المظلوم ؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة ” وحينما شرح أحمد بن إسماعيل الكوراني صحيح البخاري، قال عند هذا الحديث : ” فإن قلت : كم مظلوم يُقتل ظلمًا وقاتلُه سالم من الأذى، مع أنه يدعو عليه بأنواع من الدّعاء؟

قلت: إن الإجابة لا تنحصر فيما سأله.

بل إنما يجيبه إلى ذلك.

أو يصرف عنه السوء به.

أو يدخر له ما هو خير له.

وقال ابن عبد البر في التمهيد: فيه دليل على أنه لا بد من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة. اهـ

وتؤكد له أن هذا ليس فهما لأحد من البشر، ولكنه نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي.[ رواه الترمذي وصححه الألباني ].

فيأتيك الاستشكال الأخير : نعلم أن ادخار الاستجابة في الآخرة خير، ونعلم أن تكفير الذنوب أيضا خير، ولكننا نعلم أيضا أن  رفع الضر عن المستضعفين في الدنيا خير، وأن شفاء المريض في الدنيا خير، وأن إهلاك الظالمين خير….. فلماذا نُمنع خير الدنيا؟ لماذا تنحصر إجابة أغلب أدعيتنا في الصورتين الأخريين ؟

خير الخيرين

والإجابة من وجوه :

الأول : أنه ربما كان رفع الضر عن المستضعفين في الدنيا خيرا، وربما كان شفاء المريض في الدنيا خيرا، وربما كان إهلاك الظالمين خيرا. لكن ليس بالضرورة أن يكون خير الخيرين، فقد يكون البلاء هنا هو الأكثر خيرا، والله عز وجل  في استجابة الدعاء يختار لك الأكثر خيرا، لا مجرد الخير.

فعن عطاء بن أبي رباح: قال: قال لي ابن عباس – رضي الله عنهما-: «ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي – صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. ] رواه البخاري ومسلم] فشفاء هذه المرأة من الصرع خير، لكن الأكثر خيرا لها أن يكون صرعها سببا لدخولها الجنة، وهكذا فهمت المرأة فعلا، واختارت أن تعيش بمرضها وتدخل الجنة.

الإجابة قد لا تكون هي الخير

الثاني:  أنه ربما لا يكون إجابة الدعاء خيرا أصلا، ويكون الخير في  تحقيق أحد الخيارين الآخرين ( ادخاره في الآخرة، أو كشف مثله من السوء وتكفير السيئات) وقد علمنا القرآن أن الإنسان يدعو على نفسه بالشر من حيث يظن أنه الخير، قال تعالى : {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]

لقد دعا المسلمون على رءوس المشركين يوم أحد أن يلعنهم الله ويطرهم من رحمته ، قال ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزل قول الله تعالى : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128][ رواه البخاري] فلم يستجب الله الدعاء، وتاب عليهم وأسلموا،  فأي الأمرين كان الخير والأنفع للمسلمين : لعنهم وطردهم من الرحمة أم التوبة عليهم؟

الدنيا ليست جنة

الثالث:  أن الدنيا تجهزت لتكون دار ابتلاء لا دار نعيم، ونذكر الحديث  الآتي لتقريب هذا المعنى: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص – رحمه الله -: عن أبيه «أنه أقبل مع النبي – صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا، فقال: سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.

الحديث يبين أنه حتى أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم لم تُجب كلها، فقد دعا ثلاث دعوات، تحقق منها اثنتان، ومنعه الله تحقيق الثالثة، أعطاه الله ( ألا يهلك أمته صلى الله عليه وسلم بالجوع والغرق) ، ومنعه دعاءه بألا يجعل بأسهم بينهم؛ لأن الجوع والغرق لا يملك الإنسان له حلًّا، فلا بد من التدخل الإلهي، وقد كان.

أما عدم تنازع المسلمين فيما بينهم، فهذا بأيديهم، يستطيعون أن يفعلوه، وهو جزء من الابتلاء في الدنيا، أن خلق الله في الدنيا مسوغات البغي بين الناس، فهذا هو الابتلاء، والتكليف أن يتسامى الناس بأنفسهم عن الاستجابة لهذه المسوغات لينجحوا في الابتلاء والتكليف,

لكن أن  يجيب الله كل دعاء المسلمين، بأن ينصرهم على عدوهم، وعلى أنفسهم، وأن يخلص الدنيا من المنغصات فتكون جنة، فيصبحوا، لا يجدون لهم عدوا، ولا يجدون داعية من نفوسهم إلى الشرور والأخطاء، ولا يجدون في الدنيا حاجة من الحوائج إلا وقد قضيت، فقد أصبحت الدنيا إذن جنة، والله لم يخلق الدنيا لتكون جنة، بل لتكون دارا للابتلاء.

والابتلاء لا يكون إلا في وجود دواعي الخير والشر معا، إما من داخل رغبات الإنسان ونزواته، وإما من خارجه بين الصالحين والمفسدين؛ ولذلك إذا تمخضت الدنيا عن أحد الصنفين فقط، ولم يعد موجودا فيها إلا أهل الخير فقط ودواعي الخير فقط، أو أهل الشر فقط ودواعي الشر فقط، أذن الله بقيام الساعة؛ إذ لا يكون هناك فائدة من وجودها ساعتئذ؛ فالله لم يخلقها لتكون دارا للخير ودواعيه فقط، ولا لتكون دارا للشر ودواعيه فقط، بل خلقها للابتلاء، وهو لا يكون إلا من التفاعل بين هذين الطرفين.

فعن عبد الرحمن بن شماسة – رضي الله عنه – قال: «كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة، اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا، فسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على  أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك، قال عبد الله: أجل، ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مسها مس الحرير، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة.[ رواه مسلم رقم (1924)] فالحديث يبين أن الله إذا قبض أرواح جميع الصالحين، وخلت الدنيا إلا من كل شرير كفور، فساعتئذ يأذن الله لقيام الساعة؛ لأنه لم يعد لوجودها فائدة؟