لو سألت أي أحد عما يعرفه عن جبل طارق لاكتفى بالقول أنه مضيق بحري يقع بين المغرب و اسبانيا ومستعمرة جبل طارق البريطانية، ويفصل بين المحيط الاطلسي والبحر الأبيض المتوسط. لكن قليلون جدا من يعرفون تاريخ هذا الجبل الذي يعتبر أعجوبة بشرية وطبيعية، يلتقي فيها الحاضر البريطاني والماضي العربي الإسلامي والجغرافيا الإسبانية.

 

الجبل عبارة عن كتلة صخرية طولها 6 كم وعرضها 2 كم، وتشكل مضيقا بحريا طوله 30 كم، وعرضه من 15 إلى 25كم ، وعمقه 450 متر، ويبلغ عمق المياه فيه حوالي 300 متر، وأقل مسافة بين ضفتيه لا تتجاوز 14 كيلومتر.

“دولة” ب7 كم² وسكانها بسعة ملعب

جبل طارق عبارة عن شبه جزيرة تقع في شبه الجزيرة الأيبيرية وشمال إفريقيا في الساحل الجنوبي لإسبانيا وهي منطقة حكم ذاتي تابعة للتاج البريطاني منذ عام 1713 بموجب معاهدة أوتريخت مع إسبانيا،و تقدر مساحة الجبل بنحو 7 كيلومترات مربعة ، ولا يتعدى عدد سكانه سعة ملعب لكرة القدم وهم حوالي  35 ألف نسمة، بحسب آخر الإحصائيات لعام 2018، وهو واحد من المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم. أغلبية سكانه من البريطانيين الذين يمثلون27% من السكان، ثم الإسبان 24%  فالإيطاليون 19%، والبرتغاليون 11%، ثم المالطيون 8% واليهود 3%.

يعين التاج البريطاني رئيس حكومة جبل طارق المنتخبة من البرلمان المحلي وتدير الحكومة الشؤون الاقتصادية والداخلية باستثناء الدفاع والعلاقات الخارجية، وتمتلك بريطانيا في المنطقة قاعدة عسكرية جوية وبحرية واستخباراتية كما تشكل نقطة توقف للبوارج والغواصات النووية البريطانية.

وبموجب دستور المنطقة، لدى جبل طارق حكما ذاتيا داخليا من خلال برلمان منتخب، ولكن رأس الدولة هي الملكة إليزابيث الثانية، التي يمثلها حاكم جبل طارق.

وقد شكلت المنطقة نقطة خلاف كبير بين بريطانيا وإسبانيا إذ تطالب مدريد بالسيادة على جبل طارق وتعتبره جزءا من أراضيها، وبعد استفتاء البريكسيت في بريطانيا عام 2016 صوت 96 % من سكان جبل طارق لصالح البقاء في الاتحاد،و كشفت مسودة الاتحاد الأوروبي للتفاوض على بريكسيت أن أي اتفاق يتم بين بريطانيا والاتحاد لن يطبق على جبل طارق إلا ضمن اتفاق منفصل بين لندن ومدريد.

طارق بن زياد مر من هنا

هذا الجبل الذي يملك أهمية تاريخية واستراتيجية بالغة، فقد اشتق اسمه من اسم القائد المسلم الفاتح طارق بن زياد الذي عبره في بداية الفتوحات الاسلامية لاسبانيا عام 711 م.
المنطقة تحاربت حولها أساطيل العالم، وتناقلت القوى العظمى السيطرة عليها، ولكن بقي اسمها العربي، ذو الرنين التاريخي ملتصقاً بها، لم يستطع أحد تغييره. ويُذكِّر اسم جبل طارق، الذي يُطلق على شبه الجزيرة والمضيق الملاصق لها، سكان العالم العربي عادة بالقائد المسلم الأمازيغي، وقصته الشهيرة ، التي تروي كيف أنه أحرق سُفنه بعد الوصول لشواطئ الأندلس قائلا لجنوده: أين المفر..البحر من ورائكم والعدو أمامكم؟

ورغم مرور جيوش وقادة كثيرين على المنطقة، بقي الاسم الإنكليزي لها  Gibraltar  مفصحا عن أصولها العربية. وهي الآن منطقة حكم ذاتي تابعة للتاج البريطاني، كانت مستعمرة بريطانية حتى 1981 عندما ألغت بريطانيا هذه المكانة وقررت إقامات مناطق حكم ذاتي في ما بقي من مستعمراتها السابقة.
وبعد تغيير طريقة الحكم في جبل الطارق طالبت إسبانيا بإعادة المنطقة لسيادتها، لكن بريطانيا رفضت، كما رفض سكان المنطقة أيضا الانتماء للسيادة الإسبانية وتظاهروا ضدها. ويبدو أن لذلك أسبابا اقتصادية تتعلق بتطبيق الاقليم لنظام منخفض الضرائب، ونسبة البطالة في إقليم أندلوسيا الإسباني التي تصل 40% ،مقابل 1% فقط في جبل طارق، وكذلك الخوف من عدم منح اسبانيا لجبل طارق الاستقلالية التي توفرها له بريطانيا، بسبب النزعات الانفصالية أصلا في إسبانيا، كالباسك وكتالونيا.

ومع ذلك تبدو السيادة البريطانية على جبل طارق أمرا غريبا، إذ إن المنطقة تقع على البر الإسباني من شبه الجزيرة الإيبيرية في مواجهة الساحل المغربي، لكن الإنكليز سيطروا عليها، مع أن بلادهم لا تقع على المتوسط، بل تبعد بآلاف الأميال عن جبل طارق.

جبل طارق وجبل موسى

ولقد ربط التاريخ بين مصيري القائد طارق بن زياد، والقائد موسى بن نصير، في الحياة، كما يتقابل الآن جبلان يحملان اسميهما أحدهما في البر الايبيري، والآخر في البر المغربي.

ويقدر ارتفاع جبل موسى بنحو 851 مترا، ومما ارتبط بهذا الجبل كما يقال أنّ جيوش الفاتحين المسلمين وقبل انطلاقتهم إلى القارة الأوروبيّة وتحديدا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، تجمعت على هذا الجبل الذي إلى يومنا هذا يحمل هذا الاسم نسبة إلى القائد المسلم موسى بن نصير الذي تجمعت جيوش الفتح الإسلامي تحت إمرته.

فعلى بعد 7 كيلومترات غرب مدينة سبتة المطلة على جبل طارق، يتراءى لك جبل موسى ليشدك بكم هائل من المتناقضات الإبداعات التي يختزلها بين صخوره، فلم تجد اليونسكو بدا من تصنيفه ضمن المحميات الدولية، فأضحى قبلة للسياح والباحثين والفاعلين البيئيين.

أندلسيون يحلمون بالعودة منذ 500 عام

عندما سقطت “غرناطة” آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وسيطرت الكنيسة الكاثوليكية على كامل شبه الجزيرة الإيبيرية، ارتكبت الفظائع من تعذيب وقتل واضطهاد في حق المسلمين من قبل محاكم التفتيش، والتي انتهت بتهجير كامل للسكان أصحاب الأصول المسلمة “الموريسكيون”، الذين تفرقوا في بلاد المسلمين وسكن غالبيتهم شمال أفريقيا، ليمتزجوا ويختلطوا مع عادات وثقافات المسلمين في تلك المناطق، والتي لا تختلف كثيرا عن ثقافتهم الإسلامية، إلا أن بعضهم آثر التمسك بصفاء ونقاء هويتهم وثقافتهم الأندلسية والتي تروي حضارة عظيمة أنارت أوروبا لقرون عديدة.

وعلى طول الشواطئ الجنوبية لمضيق جبل طارق تنتشر عشرات القرى الصغيرة التي تتوزع منازلها المتواضعة البيضاء بين الجبال، وكأنها أجرام صغيرة لامعة، يسكنها أناس يختلفون في طباعهم ولهجتهم وملامحهم الشقراء وعيونهم الملونة، إنهم قبيلة “أنجرة” أندلسية الأصل الذين ظلوا على حالهم وطبيعتهم الثقافية والعرقية والاجتماعية منذ أكثر من 500 عام، عندما هاجروا من الأندلس بعد اضطهادهم وطردهم على يد الصليبيين.

ينتمي معظم أفراد قبيلة “أنجرة” إلى العرق الأندلسي بدرجة صفاء شبه كاملة، وغالبيتهم ينحدرون من أصول أوروبية، أو اختلاط بين أوروبيين وعرب أندلسيين، فالذين طردوا من الأندلس كانوا خليطا من الأجناس العربية والأوروبية، فـ800 عام من الوجود الإسلامي في الأندلس، أوجد الاختلاط العربي بالإيبيري والأوروبي والتركي والفارسي، وصب كل ذلك في بوتقة اسمها الإنسان الأندلسي، ويتحدث أفراد القبيلة لغة “الألخميادو”، وهي اللغة التي ابتكرها المسلمون في الأندلس بعد حظر التحدث بالعربية، ودونوا بها تاريخهم ومأساتهم، وكتبوا بها القرآن الكريم، والسيرة النبوية، وبعض كتب الفقه، كما أنهم يتحدثون العربية.

“أنجرة” تغازل “أندلوسيا”

منذ أن جاء أفراد قبيلة “أنجرة” من الأندلس إلى شمال أفريقيا ظلوا منغلقين على أنفسهم بين الجبال، ويتزاوجون فيما بينهم ويعيدون إنتاج خلاياهم الأندلسية جيلا بعد جيلا، ولا يزالون كذلك إلى اليوم، حتى أنهم شيدوا منازلهم بطريقة معمارية شبيهة بتلك التي تركوها في الأندلس، ومازالت الكثير من قراهم تضم منازل قديمة أسطحها بنيت بشكل ثلاثي الأضلع كالمنازل التي تبنى في المناطق الثلجية، كون أن أولئك الوافدين على بلاد المغرب جاؤوا من مناطق يتساقط فيها الثلج بكثرة مثل غرناطة، وكانوا يبنون منازل معدة للثلج لاعتقادهم أن الثلج يتساقط على أنجرة كذلك.

وكان أجداد هؤلاء الأندلسيين يعتقدون أنهم سيستقرون في هذا المكان لفترة قصيرة ثم يعودون إلى ديارهم القريبة بعد تحريرها، كما كان يحدث من قبل، إلا أن التغيرات على أرض الواقع كانت مخالفة لذلك، ومرت السنوات والعقود بل والقرون دون أي تغير.

ويتراوح تعداد أفراد قبيلة “أنجرة” بين البضعة آلاف، يعيشون في عزلة، ولا يختلطون بغيرهم فيتزوجون من بعضهم البعض، ويحافظون على ثقافهتم وعاداتهم وتقاليدهم الأندلسية، حتى أن بعضهم مازال يحتفظ بمفاتيح منازلهم في غرناطة وإشبيلية حتى الآن.

أغرب مطار في العالم وأكبر مسجد

تعد مدينة جبل طارق واحدة من أكثر الوجهات السياحية جذبا في جنوب أوروبا، وخاصة شواطئها المتميزة، و منحوتاتها الخارقة التي تأسر القلوب،و مشاهد التكوينات الصخرية. وبالإضافة لوجود واحد من أكبر مساجد جنوب أوروبا بها، وهو مسجد “إبراهيم الإبراهيم” الذي افتتح عام 1995، تعتبر المنطقة مكانا أسطوريا بالنسبة للعرب والمسلمين.

ويعد مطار جبل طارق الدولي واحدا من أكثر المطارات غرابة في العالم، حيث يقطع ممر هبوط وإقلاع الطائرات فيه أحد أكبر طرق السير والقيادة الرئيسية في المدينة، فتتم وقف حركة سير السيارات في كل حالة هبوط أو إقلاع لإحدى الطائرات، وما يجعل الأمر أكثر إثارة هو مدى قرب ممر الهبوط من المدينة نفسها.

ومن أهم عناصر الجذب التي تتميز بها مدينة جبل طارق هي مجموعة الكهوف الطبيعية الرائعة، التي تضمها صخرة الجبل نفسها، والذي يصل عددها إلى 150 كهفا، أشهرها وأكبرها، كهف “سانت مايكل” الذي يعود إلى العصر الحجري الأول، والذي يزوره اليوم ما يقرب من مليون زائر سنويا.كما تحظى مدينة جبل طارق بنصيب وفير أيضاً من الأنفاق الممتدة بداخل وأسفل التكوينات الصخرية، التي يعود تاريخ حفرها إلى الحصار الفرنسي الإسباني للمدينة.

ومن أكثر الأمور غرابة أيضا أن صخرة جبل طارق موطن لحوالي 300 من قرود “الماكاو البربري” التي تنتشر بالأصل في شمال إفريقيا وخاصة الجزائر والمغرب. وظهورها في جبل طارق ليس غريبا بما أن الفاصل البحري بين المنطقتين لا يصل 15 كلم.