الإنسان، وهو يمارس دوره ووظائفه في الحياة، يَصدُر عن تصورات معينة، تُسمَّى في مجملها “النموذج المعرفي”؛ وبقدر ما تكون هذه التصورات صحيحة أو أقرب إلى الصحة، تجيء أفعاله كذلك صحيحة أو أقرب إلى الصحة.

فالنموذج المعرفي للإنسان هو ما يحدد له خطواته، ويرسم له طريقه، ويضع له رؤيته لنفسه وللآخرين من حوله. ومن أهم مفردات النموذج المعرفي التي تشكل مسار النموذج كله، ومن ثمَّ مسار الإنسان في الحياة؛ هي ما يتصل بتصور الإنسان عن (الإله) وعن (الإنسان) نفسه.

فحين يتصور الإنسان، أو يعتقد، أن الإله متصف بكل كمال، منزَّه عن أي خطأ، متعالٍ عن الحوادث والكائنات، مفارق لها تمام المفارقة، لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئًا، سميع بصير محيط مهيمن فعال قادر مقتدر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11).. إلى آخر صفات الكمال والتنزه.. فإن الإنسان حينئذ سيسلك مسارًا في الحياة يختلف تمامًا عمن يعتقدون في (الإله) خلاف ذلك؛ ممن لا يقولون بوجود إله أصلاً، أو يزعمون أن الإله خلق الكون ثم تركه ولم تعد له به صلة، مثل صانع الساعة؛ يصنعها ثم يتركها تعمل تلقائيًّا..!!

كذلك الأمر بالنسبة للموقف من (الإنسان)؛ فحين يعتقد المسلم أن الإنسان مخلوق استخلفه الله في الأرض لمهمة محددة، واستأمنه على ما وهبه من جوارح وملكات، وما منحه في الأرض في طاقات وثروات؛ وأن الإنسان له رحلته قصيرة في الحياة تنتهي بالوفاة ليكون بعدها الحساب في دار الخلود؛ وأن الإنسان مكلف باتباع منهجٍ جاءه من طريق الأنبياء والرسل وليس مُخوَّلاً في أن يضع لنفسه منهجًا؛ وأن اتباع هذا المنهج فيه سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، فلا يضل ولا يشقى.. حين يعتقد الإنسان ذلك عن نفسه، فإن حركته في الحياة ستجيء منضبطة تبعًا لهذه التصورات، وستكون حركةً مخالفة تمامًا لمن يعتقد في (الإنسان) غير هذا.

إذن، سبب أساسي لما نراه من خلل في عالمنا وحياتنا هو ما يكون من خلل في تصورات الإنسان عن (الله) وعن (الإنسان).. وحين يحدث هذا الخلل فإن الفواصل بين الله والإنسان لا تعود كما ينبغي؛ حيث الإله متصف بكل كمال منزه عن كل نقص، له الخلق والأمر.. وحيث الإنسان مستخلف ومؤتمن في رحلة قصيرة بعدها دار الحساب..

بل ربما تنعكس هذه الفواصل بحيث تنمحي فكرة الألوهية.. ويصير الإنسان هو الإله! ليس فقط بمعنى أن يُعبَد وتقدم له القرابين، وإنما أن ينازع الله في صفاته وأسمائه، ويدَّعى لنفسه ما ينبغي لله؛ من قدرة وعلم وحكمة وهيمنة وغير ذلك.

فقد يتصور الإنسان- حينما تغيب هذه الفواصل بين الذات الإلهية والذات الإنسانية- أنه (قادر) على كل شيء، وأنه يمكن أن يسيطر على الطبيعة، بل وأن يسيطر على نوع من الإنسان يعتقد أنه أقل منه (ولهذا تجيء تسميات مثل “العالم الثالث” دالَّةً ومقصودة!).. وبالتالي، لا يمنعه مانع من السيطرة على الآخرين واستنزاف ثرواتهم؛ لأن قدرته لا حدود لها!

وقد يتصور الإنسان أنه (عليم)؛ قد وصل إلى ما لم يكن يحلم به أسلافه في درجات العلم والاكتشافات والاختراعات.. ويظن أن هذا يُخوِّل له أن يفتي في كل شيء، وأن يحدد ماهية كل شيء حتى لو كان مما يتصل بعالم الغيب الذي لا تدركه الحواس ولا تحيط به العقول!

وقد يتصور الإنسان نفسه (حكيما)؛ فيشرِّع لنفسه وللآخرين ما يراه.. دون الشعور بالحاجة إلى هداية السماء ونور الوحي..

وقد يتصور الإنسان نفسه (مهيمنًا)؛ فلا سلطان عليه إلا نفسه، ولا رادَّ لمشيئته إلا رغبته، ولا محاسب له ولا وازع.. ولهذا فإن من يتسلطون على الضعفاء أو يتحكمون في مصائر الشعوب هم يضعون أنفسهم- ولو عمليًّا، دون التصريح بذلك- مكان الله تعالى من حيث الهيمنة على الكون، وإنفاذ الإرادة دون مانع.. فإذا كان الإله مهيمنًا على سواه، فإن الإنسان حين يغيب عن الله تعالى يظن نفسه إلهًا، ويمارس أفعاله وحركاته كما لو كان إلهًا..!

ومن ثم، كان (الفرعون) منازعًا لله في سلطانه وهيمنته: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف: 51).. و(القارون) منازعًا لله في غناه وقيوميته: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص: 78).

فينبغي على الإنسان- إن أراد الاستقامة في الدنيا، والنجاة في الآخرة- أن يدرك ما ينبغي لله تعالى من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، والكمال المطلق، والتنزه عن الحوادث، والتفرد بالخلق والأمر.. ومن ثم تجب له سبحانه العبودية الخالصة، والسمع والطاعة عن طواعية، والثقة المطلقة في حكمته وعدله، والتوكل عليه والاستسلام، والخضوع لأمره ومشيئته بلا ضجر.

وينبغي أيضًا على الإنسان أن يدرك ما يتصف به (الإنسان) من علم قاصر، وإرادة كليلة، وحكمة مشوبة، وطاقة محدودة، وعمر قصير، واحتياج دائم لغيره.. فليس هو إلهًا ولا ينبغي له.. ولا هو مخلد في الحياة، ولا مسيطر على الكون، ولا سيد على نظيره من بني الإنسان.. وبالتالي، عليه أن يتصرف طبقًا لهذا “النموذج المعرفي” في رؤيته عن نفسه؛ فلا يتكبر ولا يتعالى ولا يتسلط، ولا يمنع عباد الله خيرات الله، ولا يجور على الحقوق أو يتوانى في الواجبات، ولا يزعم لنفسه علمًا تامًّا أو قدرة مطلقة أو مشيئة نافذة.. وإنما خضوع للخالق سبحانه، وتواضع للمخلوقين، وخَفْضٌ للجناح، واستصغار للنفس، ومسارعة في حقوق الناس، ومحاسبة مستمرة قبل يوم الحساب والجزاء!

ولهذا، قيل: من عَرَفَ نفسه عرف ربه (وهو ليس بحديث).. قال النووي: معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له؛ عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات الْعُلَى (نقلاً عن “الحاوي للفتاوي” للسيوطي)

فهل ما نراه في عالمنا من كوارث ومصائب وجرائم وظلم وتجبر وفرعنة وكهنوت، إلا حين غابت الفواصل بين الله والإنسان.. وإلا حين غفل الإنسان عن الله تعالى؛ أو أحلَّ نفسَه مكانه؛ أو زعم لنفسه ما يجب له سبحانه من طلاقة قدرة، ونفاذ إرادة، وإحاطة علم، وحكمةِ تشريعٍ وتوجيه..؟!