قد لا يكون من المعلوم لدى بعض عشاق القهوة ورواد المقاهي أن شرابهم المفضل (القهوة) كان مثارَ جدلٍ فقهيٍ كبيرٍ منذ قرونٍ، انقسم حوله الفقهاء المهتمون بجدلية تحليل وتحريم القهوة إلى فريقَيْن، فريقٌ يعتبر القهوةَ شرابًا حلالًا لا غبار عليه، وفريقٌ يعتبرها شرابًا حرامًا، نظرًا لتشابه القهوة مع بعض الأشربة المحرمة المضرة بالصحة، الأمر الذي خلّف تراثًا أدبيًا يحلو ترداده على موائد القهوة والمقاهي. في هذه المقالة سنُسلّط الضوءَ على جوانب من تاريخ القهوة والجدل الذي ثار حول مشروعيتها، بدءًا بإشكالية النشأة والمصطلح، مرورًا بتاريخ القهوة في الحجاز ومصر، ثم في أرض الشام الجنوبية، وانتهاءً باليمن والبوسنة، وسيكون عمدتنا في هذه المقالة كتاب “من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي” لمحمد م. الأرناؤوط[1].

القهوة: إشكالية النشأة والمصطلح

بمجرد العودة إلى دواوين الشعر العربي وقواميس اللغة، سنُطالع كلمة “قهوة” بعدة معانٍ، ومع العودة بشريط البحث والتقصّي إلى الوراء، سنجد أن كلمة “قهوة” كانت موجودة عند العرب قديمًا، فقد تم استخدام هذا المصطلح عند بعض الشعراء الجاهليين الأوائل بمعنى “الخمر”، وإذا أردنا التحديد أكثر فيمكن أن نقول إن أول استخدامٍ لكلمة “قهوة” كان عام 430م، عندما استخدمها الشاعر أحيحة بن الجُلاح الأوسي بمعنى “الخمر”، فقال:

لِتَبكِني قَينَةٌ وَمَزهَرُها **** وَلتَبكِني “قَهوَةٌ” وَشارِبُها

وَلتَبكِني ناقَةٌ إِذا رَحَلَت **** وَغابَ في سَردَحٍ مَناكِبُها[2].

بعد ذلك وردت كلمة “قهوة” في أشعار شعراءٍ آخرين، وقد وقفنا عليها في خمسةٍ من قواميس اللغة العربية[3]، إذ جاء في القاموس المحيط: “القَهْوَةُ: الخَمْرُ”، “وأقْهَى: دامَ على شُرْبِ القَهْوَةِ”، وجاء في لسان العرب: “والقَهْوة الخمر، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته”. وقد عرف جمال الدين القاسمي القهوة بأنها “مشروب الكتّاب والمدرسين، والمطالعين للكتب، والمعلمين للعلوم الأدبية والصناعية، والشعراء وأهل الأدب”.

أما بخصوص قصة اكتشاف القهوة، فقد نقلت هدى الزين قصة طريفة عن كتاب “القهوة القوة المحركة للتاريخ” للكاتب “ستوارث لي آلن”، مفادها أن بدايات استخدام القهوة تعود إلى اكتشاف راعٍ إثيوبي لمعزاته تتراقص بصورة هستيرية، وعندما راقبها لاحظ أن الأمر يتكرر كلما تناولت المعزاة ثمرة معينة، وهنا جرّب الراعي نفس الثمرة، فشعر بنشاطٍ عند تناوله لها، فقدمها إلى متصوّفٍ كان يقوم الليل، كي تساعده على القيام[4].

تاريخ القهوة في الحجاز ومصر

في سياق حديثه عن بدايات تاريخ القهوة في الحجاز، ذكر محمد م. الأرناؤوط أن “واقعة مكة” عام 1511م تكشف عن الجو الذي ظهرت فيه القهوة وهي تُشرب في جوار الحرم، حيث أصبحت هناك أماكن للقهوة تُوّفرُ أدواتٍ للتسلية، مثل الشطرنج والرهن والقمار. وفي ليلة 22/23 عام 1511م، ستكتشف “الحسبة في مكة؛ الوصية على أخلاق المجتمع”، جماعة يتعاطون القهوة خلال احتفالهم بالميلاد النبوي، وهنا سيبدأ السؤال عن مشروعية هذا المشروب الجديد على البلاد، فتعقد مجموعة من الفقهاء[5] اجتماعاً، لتحديد الحكم الشرعي من شرب القهوة.

وقد خرج أولئك الفقهاء من اجتماعهم بنتيجة سمحت لهم بالتفريق بين حكم القهوة وما صاحبها من مظاهر، فقالوا بتحريم الهيئة التي كانت تُصاحب شُرْبَ القهوة، وأقروا بأن المادة التي تصنع منها القهوة (البن) حلال، لأن حكمها كحكم النبات، أما تحديد الضرر الصحي فتركوا القرار فيه للأطباء، وقد شهد حينها طبيبان بأن مشروب (قشر البن) “بارد يابس مفسد للبدن المعتدل”[6].

ورغم ذلك؛ احتدم الخلاف حول القهوة مجددًا، فانقسم الفقهاء إلى فريقين؛ مَالَ الأول إلى تحريمها، بينما فضّل الثاني تحليلها، وقد كان من المعارضين للقهوة: القاضي ابن الشحنة الحنبلي، والشيخ الحكمي الكازرومي، أما المؤيدون للقهوة فمنهم: الشيخ محمد البكري الصديقي، الذي يقول:

أقولُ لمن ضاقَ بالهمّ صدرُه **** وأصبحَ من كثر التشاغل في فكرِ

عليك بشرب الصالحين فإنه *** شرابٌ طهورٌ سامي الذكرِ والقدرِ

فمطبوخ قشر البن قد شاعَ ذكرُه ** عليك به تنجُو من الهمّ في الصدرِ.

وفي مصر كان الخلاف حول القهوة حادًا أيضًا، ما أدى إلى اندلاع فتنة 1534م. وسعيًا إلى إنهاء هذه الفتنة، تمت إحالة أمر القهوة إلى قاضي القضاة محمد بن إلياس الحنفي، فأمر بطبخ القهوة، وسقى جماعات كؤوسًا منها، ليختبر مدى تأثيرها عليهم، فلم يلاحظ شيئًا، فأقرها على حالها، وهكذا رجحت كفة المؤيدين للقهوة، فكتب الشاعر إبراهيم ابن المبلط (ت: 1583م) قصيدة يقول فيها:

أرى قهوة البّن في عصرنا ** على شربها النّاس قد أجمعوا

وصارت لشـرابها عـادة ******** وليست تضـرّ ولا تنفـعُ.

تاريخ القهوة في بلاد الشام

مع سقوط الدولة المملوكية وبزوغ فجر الدولة العثمانية، كانت الشام على موعدٍ مع دخول القهوة إلى أراضيها، ما أدى إلى نشوب جدالٍ واسعٍ بين الفقهاء؛ استمر مدة قرن تقريبًا، تكرارًا لسيناريو الحجاز ومصر، بيد أن قضية القهوة في الشام تميّزتْ بأنها أصبحت “قضية عثمانية إسلامية، وليست قضية محلية فقط”[7].

كتاب القهوة المقاهي
كتاب “من التاريخ الثقافي القهوة والمقاهي” لمحمد م. الأرناؤوط

في بداية الأمر، أخذ الخلافُ يصبُّ في مصلحة المعارضين للقهوة، إذ قام الشيخ محمد بن عبد الأول الحسيني عام 1554م بتحريم “القهوة البنية”، باتفاقٍ مع مجموعةٍ من العلماء، ثم سعى إلى توسيع دائرة التحريم، فعرض على السلطان العثماني أمر إبطال القهوة، فقام السلطان بإبطالها عام 1546م. ولكن يبدو أنه في نهاية كل معركةٍ من معارك القهوة ينتصر الفريق المؤيد للقهوة على الفريق المعارض، “ومما ساهم في ترجيح كفة أنصار القهوة أن العلماء المناصرين أخذوا يرتادون بيوت القهوة/المقاهي الجديدة، ويتمتعون بشرب القهوة هناك”[8]، فساعد ذلك على إقناع الناس هناك بشرب القهوة وارتياد المقاهي؛ أسوة بألئك الفقهاء.

تاريخ القهوة في البوسنة واليمن

استناداً إلى مصادر تاريخية، صرّح الباحث محمد م. الأرناؤوط بأنّ القهوة انتشرت في البوسنة خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، إذ وُجِدَ في سراييفو عام 1592م “مقهى حسن الترتيب؛ يتميز بوجود ركنٍ خاصٍ لكل طائفةٍ من المجتمع: واحد للقضاة، وآخر للشيوخ، وثالث للأعيان، ورابع للمدرسين”[9]، هذا بالإضافة إلى مجموعةٍ من المقاهي في مدن أخرى، مثل مقهى “فوتشا” 1600م، و”بانيا لوكا” التي كان فيها شخص يحمل لقلب “القهوجي” أي بائع القهوة، وفي عام 1640م سيحفي والي البوسنة بأحد ضيوفه، ويقدم له القهوة.

وهكذا يبدو أن البوسنة لم تكن بدعًا من نظيراتها، فقد شهدت جدلًا حول حكم شرب القهوة استمر ردحًا من الزمن، لكن مع الوقت سينتصر الفريق المؤيد للقهوة كالعادة، وسترتبط القهوة “بعادات وتقاليد اجتماعية وثقافية، إلى الحد الذي لم يعد فيه تصوّرُ معارضتها أو منعها”[10]، لأنها أصبحت رمزًا للاحتفاء بالضيف.


الهوامش:

  1. محمد م. الأرناؤوط، من التاريخ الثقافي القهوة والمقاهي، (بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع 2012).

  2. انظر: ديوان أحيحة بن الجلاح الأوسي الجاهلي، دراسة، جمع، تحقيق، حسن محمد باجودة، (مطبوعات نادي الطائف الأدبي، بدون تاريخ)، 62.

  3. القواميس الخمسة التي وقفنا على كلمة “قهوة” فيها، هي: لسان العرب، القاموس المحيط، تاج العروس، مقاييس اللغة، المعجم الوسيط.

  4. انظر: هدى الزين، المقاهي الأدبية في باريس.. تاريخ وحكايات، (مصر: الهيئة المصرية للكتاب 2014) 14.

  5. من بين هؤلاء الفقهاء؛ الذين اجتمعوا لمناقشة حكم القهوة: صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي، ونجم الدين عبد الوهاب المالكي، والشيخ عبد الله اليماني الحضرمي، والشيخ عبد النبي المالكي المغربي.

  6. محمد م. الأرناؤوط، من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، 16.

  7. محمد م. الأرناؤوط، المرجع نفسه، 37.

  8. محمد م. الأرناؤوط، المرجع نفسه، 43.

  9. محمد م. الأرناؤوط، المرجع نفسه، 59.

  10. محمد م. الأرناؤوط، المرجع نفسه، 63.