ما تزال الهند رغم عراقة انتسابها للإسلام، وعميق مساهمتها في فكره مجهولا معرفيا كبيرا  للعرب، لا يتابعون إنتاجه العلمي في المعارف الإسلامية، ولا يهتمون بمفكريه وعلمائه، وربما انصرف الاهتمام العربي إلى متابعة السينما الهندية أكثر من متابعتهم لمعالم التجديد الفكري هناك، إلا أن الهند شريك مؤثر في الفكر الإسلامي، طرح علماؤها رؤى أثرت في المسيرة الإسلامية في القرون الأخيرة.

 

تأتي “مجلة الهند” الفصلية لتقدم على مدار ثلاثة أعداد، في صفحات تجاوزت الألفين، وبحوث تجاوزت المائة تعريفا بالعلامة الهندي عبد الحميد الفراهي، الذي يعد من كبار العلماء الذين شكلوا العقل المسلم في الهند[1]، وشكلت  كتبه ودراسته إضافة نوعية للمكتبة القرآنية.

و”مجلة الهند” مجلة علمية فصلية محكمة، يدير تحريها الدكتور “أورنك زيب الأعظمي” وهو رجل يجيد ثلاث لغات منها العربية، وامتدت الأعداد الثلاثة عامي 2017 حتى أغسطس 2018،  ولكن من هو عبد الحميد الفراهي الذي أخذ هذا لاهتمام الواسع من الأبحاث والدراسات؟

الإمام عبد الحميد الفراهي[2] (1863-1930) حياته امتدت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكان عند فاته في عمر(67) عاما، وهو صاحب نظرية نظام القرآن، ولد في مدينة “أعظم كره” بالهند أحد مركز العلوم والآداب، ونشأ في أسرة عريقة النسب، واسعة الثقافة، مهتمة بالعلم، وأخذ العلم عن العلامة المؤرخ “محمد شبلي النعماني” ، وكان النعماني يكبره بست سنوات، وبينهما صلة قرابة قوية، وأبدى اهتمام واضحا بالفراهي لنبوغه، فصقل مواهبه.

حصل الفراهي على شهادة البكالوريوس من جامعة “إله آباد”، ولكن انصرف إلى التحقيق والبحث دون تتويج ذلك بالحصول على درجة الدكتوراه، ثم عين أستاذا للغة العربية في كلية “علي جره” والطريف أن المستشرق الألماني الشهير “يوسف هارويز” أستاذ اللغة العربية، أكمل تعليمه للعربية وأسرارها أخذا عن الفراهي، وفي المقابل تعلم منه الفراهي اللغة العبرية، ثم اختير الفراهي أستاذ للغة العربية في جامعة “إله آباد”، ثم مدير دار العلوم بحيدر آباد، وكانت أكبر مدرسة رسمية يتخرج فيها موظفي الحكومة الأكفاء.

كان الفراهي يجيد عدة لغات منها: العربية والفارسية والعبرية والإنجليزية، ومجيدا للغات المحلية: كالسنسكريتية والهندية والأردية، واطلع على الفكر الحديث خاصة الغربي، فجمع بين الثقافتين، ودرس الفلسفة على يد المستشرق الشهير الدكتور “توماس آرنولد”، لكن الفراهي كان يعتبر الفلسفة جزءا من المؤامرة الانجليزية على الهند، فلم يتعمق فيها، وكان يعتبر أن كتاب ذلك المستشرق المعنون “نشر الإسلام” أُلف لاستئصال روح الجهاد من بين المسلمين.

وبعد استقالة الفراهي من حيدر آباد عاد إلى موطنه، وأسس “مدرسة الإصلاح” المهتمة بتدريس الأدب العربي والقرآن الكريم، وعمل مدريا لها، وكانت ذا تأثير واسع في جيل من علماء الهند، وكان للفراهي تأثيره الكبير في الثقافة الإسلامية في الهند، وكان من أهم تلامذته من العلماء الشيخ “أمين أحسن الإصلاحي” الذي ألف التفسير الشهير “تدبر قرآن”، أما الشيخ “أختر أحسن الإصلاحي” فكان من العلماء الذين تربى علي يديهم جيل كامل من علماء الهند.

وبعد سنوات مرض العلامة الفراهي وتوفي (19 من جمادى الآخرة 1349هـ=11 نوفمبر 1930) ودفن في مقبرة الفقراء بالمدينة.

إسهامات الفراهي

كان شديد الشغف بالقرآن الكريم لا يتوقف عن النظر فيه، فعاش معه خمسين عاما، ومع ذلك تأسف عن تقصيره وانشغاله عن الانقطاع التام له، أما تأثيره في الثقافة الإسلامية في الهند فكان كبيرا، إذ كان يرى أن مهمته هي: التأثير في العلماء تغير تصوراتهم وأفكارهم عن الإسلام والقرآن، وهؤلاء يقومون بدورهم في تغيير المسلمين، فترك ما يقرب من سبعين كتاب بين مطبوع ومخطوط، وكتب لم تكتمل، لكنه يكاد أن يكون من خلال مؤلفاته ودراساته وضع خطة شاملة للدراسات القرآنية، حتى يجعل القرآن الكريم مصدرا لكافة العلوم.

ومن أهم كتب تفسيره الذي لم يكتمل “نظام القرآن” و “تأويل الفرقان بالفرقان” و”إمعان في أقسام القرآن” و”مفردات القرآن” و”أساليب القرآن” و”القائد إلى عيون العقائد”، ووصف الشيخ محمد رشيد رضا تعاطي الفراهي مع التفسير بقوله “طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير، وإن للمؤلف لفهما ثاقبا في القرآن، وإن له فيه مذاهب في البيان وطرائق في الاستطراد”، ومن العجيب أن الفراهي ألف كتبه كلها باللغة العربية إلا كتابين، فقد كان فصيحا ضليعا في اللغة العربية مستقيم اللسان في نطقها.

كان الفراهي يرى أن منهج المسلمين في تدبر القرآن قديم، ولعل هذا ما انعكس في ضعف مستوى المثقفين المسلمين فكريا، وكان يمتلئ قناعة أن فتح طريق صحيح لفهم القرآن كفيل بحل معضلات المسلمين الفكرية، ويرى أن يبدأ الإصلاح من الفكر أولا ثم يمتد إلى واقع الحياة، وأن إصلاح الفكر لا يكون إلا بالقرآن، وذلك من خلال تجديد مناهج النظر إليه، وأن القرآن يفسر بعضه بعضا، لذا سعى لاكتشاف الترابط الفكري في القرآن، إذ لم تشبعه التفاسير الموجود وأخذ في حالة تدبر عميق مع القرآن واهتدى إلى فكرة “النظام” الذي تقوم عليه آيات القرآن، ووضع خطة لضبط الفهم والتفسير والتأويل، وصب رؤيته وصاغها في (12) كتابا، أهمها كتاب “مفردات القرآن”، وحتى يفهم الكلمة القرآنية كان لا يكتفي بعلوم اللغة فقط، ولكن لابد من تضافر ثلاثة علوم هي: اللغة والتاريخ والحكمة (الفلسفة)، وكان يقول عن القرآن الكريم:”إنك كلما زدت علما، رُفع لك ستر من معانيه.

ومن القواعد التي تمسك بها الفراهي في تأويل القرآن الكريم قاعدة “لا يُؤخذ من الروايات ما يهدم الأصول أو يقلعها”، لذلك كان يقول: “وجب على من يحاول فهم القرآن أن لا يأخذ من الروايات ما يهدم الأصل أو يقلعه، فإني رأيت بعض الروايات تقلع الآيات، وتقطع نظمها إلا أن تؤول، ولكن التعجب من يؤول الآية ولا يؤول الرواية” لذلك رفض أن ينسخ القرآن، لذا يعتبر الفراهي منشئ علم “أصول التأويل”، وهو علم لم يسبقه إليه أحد ، وهو يحتل مكانه خاصة في علم التفسير، وكان يرى أن غياب هذا العلم جعل المذاهب التفسيرية تختلف، وهو ما أوجد قناعة عند الكثيرين أن القرآن كتاب معقد في معانيه، ولا يكاد يُعتقد أن القرآن كتاب مبين، وهذا ما جعل الظن يسود أن القرآن ودراسته وفهمه هو عمل العلماء، وأن على الآخرين تلاوته دون الانصراف لمحاولة فهمه أو التفكير في معانيه.


[1] تبلغ نسبة المسلمين ما يقرب من 14%  من السكان، في بلد يشكل سكانه 17% من سكان العالم.

[2] يعرف أيضا بحميد الدين الفراهي