هل “كل تجربة عبء يثقل خطانا” كما يقول الناقد محمد مندور، أم أن “كل تجربة تصقل خطانا”؟ فكل تجربة يستفيد منها العقل تجعل الخطوات أكثر وقعا تأثيرا وديمومة، وإذا كانت الخطوات للعقل وليست للقدم، فإن احتفاظ التاريخ لها يكون طويلا، ومن ذلك المراجعات التي يجريها المفكر لمساره.

وقد تميز القرن العشرين في مصر بموجتين من المراجعات الفكرية، جاءت الأولى في نهاية العشرينيات وطوال الثلاثينيات، أما الموجة الثانية فجاءت في نهاية السبعينيات وامتدت إلى الثمانينات، ولم تكن تلك المراجعات تعديلا للفكر أو تصحيحا لبعض أخطئه، أو تطوير لما يستحق أن يُطور، ولكن كانت انقلابا على الأفكار، حتى ليبدو للقارئ أننا أمام مفكر جديد، أو أمام ميلاد جديد لعقل آخر.

ورغم أن الذين قاموا بالمراجعات تعرضوا لانتقادات لاذعة، من رفقاء الأمس، بعدما غادروا معسكرهم الفكري متهمين إياهم بأنه سعوا إلى الشهرة، أو اكتساب سوق الكتاب، أو طماع في مال أو منصب، إلا أن الحقيقية تؤكد أن من قام بالمراجعات كان يجد أكثر من تلك الإغراءات في معسكره الفكري قبل أن يغادره.

والتعمق في شخصيات المراجعين فكريا يمسك بملاحظة ذات أهمية، وهي: أن إطلاقهم لأفكارهم كان يحمل قناعاتهم وإيمانهم الراسخ بصحتها، وأنها الأفكار التي يجب أن يعيش لها وبها ويبشر بتعاليمها، فكان يمتلئ قناعة بأهميتها وقدرتها على التغيير، هذا الصدق الكبير مع النفس، والوضوح مع العقل، والنزاهة النفسية جعلت ذلك المفكر يقود سفينة فكره لرحلة إلى شواطئ الفكر الجديد بنفس الروح والقناعة والحماسة لا يسمع إلا صوت ضميره القادم من أعماقه البعيدة التي ليس لأحد سلطان عليها.

ويلاحظ في موجتي التحولات الفكرية أنهما جاءتا في أجواء من الانفتاح السياسي والازدهار النسبي للحريات، فكان الكاتب أو المفكر يقول رأيه ولا يخشى على رأسه من بطش السلطة، كذلك يلاحظ أن موجتي المراجعات جاءتا في لحظة تحول سياسي ومجتمعي واسع داخل مصر، فالموجة الأولى جاءت في أجواء ثورة 1919 أول ثورة شعبية في تاريخ الشرق، والثانية جاءت في لحظة الانصراف عن المشروع الناصري بما حمله من تزاوج بين القومية والاشتراكية، كذلك جاءت المراجعات في لحظة تغير للتبعية ففي الموجة تغيرت التبعية من العثمانيين للتبعية للاحتلال البريطاني، والثانية في لحظة انتقال التبعية للمعسكر الغربي بدلا من المعسكر الاشتراكي.

الموجة الأولى

مع بداية القرن العشرين كانت أولى المعارك الفكرية، ففي العام 1913 كتب منصور فهمي رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون بفرنسا بعنوان “أحوال المرأة في الإسلام”، وجاءت قدحا فجا في الإسلام وموقفه من المرأة، فأثارت موجة غضب في القاهرة، مُنع على إثرها منصور فهمي من التدريس في الجامعة ولم يعد إلا عام 1920، لكن الرجل اعترف بخطأ في جرأة نادرة تحسب له، وأكد أنه تورط في الكتابة دون استعداد كامل ومعرفة واضحة بالإسلام، فيقول: “فاندفعت أكتب بحرارة الشاب المندفع، ويظهر أني انحرفت قليلا، حيث كانت معلوماتي عن الإسلام طفيفة، وحين قوبلت في مصر بضجة كبرى ازددت عنادا، ثم كتب الله أن أجلس طويلا مع بعض مشايخ العلماء من ذوي الأفق الواسع والصدر الرحيب.. فبدأت أخلص من الزيغ لأعود إلى حظيرة الدين والحمد لله”، بل إن الرجل مضى بعيدا في مراجعته، فاعتبر أن المرأة ميدانها الأول في البيت، وخير لها وللمجتمع ألا تغادر هذا الميدان تحت دعاوى موهومة، فيقول: ” فعندي أن العائلة هي الركاز الأول في سلام الإنسان، والمرأة هي عميدة هذا الركاز الأول، وكل أمر يشغلها عن مركزها في العمادة إنما هو تفويت لما تنشده الإنسانية من خير وسلام. وكل خروج بالمرأة إلى أعمال المجتمع هو محسوب ومطروح من حساب خصائص العائلة وتراحمها وتساكنها”.

ومن المراجعات المهمة في الموجة الأولى هي انتقال الوزير والسياسي والمفكر الدكتور محمد حسين هيكل من كونه أحد كبار دعاة الليبرالية في مصر ليصبح أحد أهم من كتب في الإسلاميات في الثلاثينيات، فعندما عاد هيكل من رحلته الدراسية للدكتوراه في فرنسا عام 1912 عاد مبهورا بما رأى ودرس، وتحول الانبهار إلى نقمة على حالة التخلف التي تعيشها مصر، فكتب يمجد في المدنية الغربية والأدب والفكر الغربي باعتباره معيار السمو الإنساني، وخاض معارك فكرية وجدال مع مجلة المنار التي يرأسها الشيخ رشيد رضا والتي تعبر عن التوجه الإسلامي، وذلك من خلال جريدته “السياسة” ، فكان هيكل ضمن مجموعة من مفكري تلك الفترة ترى أن تجديد الفكر يتطلب البعد من الفكر الإسلامي بما يفرضه من قيود، وأن الفكر الإسلامي أصبح يمثل مرحلة تاريخية ولا يصلح لإحياء ونهضة مصر.

استمر هيكل أحد كبار دعة الليبرالية في الفترة من 1912 حتى 1935 عندما أصدر كتابه “حياة محمد” والغريب أنه قوبل بهجمة شرسة من دعاة التغريب بعد النجاح الذي حققه الكتاب، لكن شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي أشاد بالكتاب وصاحبه ووصف الكتاب بقوله” فجاء كتابه عقدًا منضدًا وسلسلة متينة محكمة الحلقات، يجعل القارئ مطمئن النفس رضي القلب ليستمتع بما يقرأ” فـبدأت العلاقة بين الوحي والعقل تأخذ علاقة المطلق بالنسبي، فكان طبيعيا أن يخضع النسبي للمطلق” ومن ثم كان حضور الوحي والإيمان في فكر هيكل كان أهم ما يمكن الإمساك به في مراجعته العميقة، وتجلى بوضوح أكثر في كتابه “في منزل الوحي” حيث جلس هيكل أثناء حجه في غار حراء وقتا طويلا مسترجعا أول اتصال بين الأرض والسماء في الإسلام.

وعندما اختير عضوا في مجمع اللغة العربية عام 1940 وافق المجمع على اقتراحه بوضع ” معجم خاص لألفاظ القرآن الكريم” ، ولعل من حضور البعد الإيماني أن آخر رواية كتبها كان عنوانها “هكذا خُلقت”، وكتبها بعد أربعين عاما من إصداره لرواية “زينب”  من أوائل الروايات التي كتبت بالعربية، إلا أن وتحكي”هكذا خُلقت” قصة فتاة تعيش حياة صاخبة على النمط الغربي، ولكن تشهد حياتها تحولات حادة تدفعها إلى المراجعة والإيمان الكامل، والحج هو نهاية مطافها في الحياة، واختار الدكتور هيكل الحج لرمزيته العالية في الرحلة، وفي مسألة الولادة الجديدة للإنسان والتطهر الكامل، ويلاحظ أن هيكل في مراجعته لم يتخل عن منهجيته وأدواته التحليلية التي تعلمها في الغرب، ولكنه قام بتوظيفها في إطار جديدة لخدمة رؤيته الفكرية الجديدة.

وقد شهد منتصف الثلاثينيات عودة كتابات عن الإسلام فالدكتور طه حسين بعد معركته في كتابه “في الأدب الجاهلي” عام 1926، جاء بعدها بست سنوات وأصدر كتابه “على هامش السيرة” عام 1933، وكتب توفيق الحكيم مسرحيته “محمد” عام 1936، وبدأ العقاد يكتب عبقرياته عام 1937، وفي كتاب “الميزان الجديد” للناقد  “محمد مندور” كتب متعجبا:” أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن “محمد”؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت”، فمندور يتعجب أن يكتب هؤلاء المفكرون عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، معتبرا أن ذلك نوعا من التزمت، لكن مندور عاد فلمز هؤلاء الذين راجعوا أفكارهم معللا المراجعات بأنها نتاج لتلك السنوات من الإخفاق، وأن المراجعات ربما جاءت تحت تأثير الضغط الاجتماعي والخضوع لمنطق الشهرة، غير أن كلام مندور يحمل تناقضه في داخله، فهيكل والحكيم والعقاد وطه حسن لم يكن ينقصهم الشهرة أو المكانة أو المكاسب المادية، فقد كانوا في تلك السنوات ملء السمع والبصر، وكانوا يحظون بتأييد النخبة التغريبية التي كانت تمتلك الكثير من مفاتيح التأثير والثروة .

أما الدكتور طه حسين ففي العام 1926 أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي”، أعلن فيه شكه في بعض القصص التي وردت في القرآن، وثارت حوله موجه من الانتقادات وصلت إلى القضاء وانتهت بفصله من الجامعة أربع سنوات انتهت بعودته 1936، لكن الرجل راجع ما كتب ويبدو أن موجات الغضب ضد الرأي تجعل المفكر يتشبث برأيه حتى وإن كان يوقن أنه ليس على صواب، لذا عندما سكن الغضب أخذ العقل الحر يعيد تقييم الآراء والأفكار التي كُتبت، وسرعان ما كتب طه حسين كتاب ذائع الصيت “على هامش السيرة” الذي صدر في أكثر من ستمائة صفحة، واستند فيه إلى كتب السير والطبقات، وقال في مقدمته:”هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين لأني لم أرد بها إلي العلم، ولم أقصد بها إلي التاريخ وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قرائي للسيرة فأثبتها مسرعاً ثم لم أر بنشرها بأساً، ولعلي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، وأحب أن يعلم الناس أيضاً أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأساً، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإني لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين”.

ويرى البعض أن الدكتور طه حسين أراد بكتابه على هامش السيرة أراد يهرب من مهاجميه الذين اتهموه في دينه، لكن الحقيقة أن الرجل لو أراد ذلك لتراجع في عنفوان معركة “الشعر الجاهلي” ورفع الراية البيضاء لخصومه وأطفأ نار الأزمة في ذروة اشتعالها، لكن الرجل أمضى أربع سنوات خارج الجامعة، يصارع فيها بكل ما أوتي من قوة، وعندما سكت الغضب عاد بأخلاق الأحرار ليجري مراجعته .


-بابر يوهانزن-محمد حسين هيكل أوروبا والشرق من منظور واحد من الليبراليين المصرين-ترجمة خليل الشيخ-هيئة أبو ظبي للثقافة-الطبعة الأولى-2010

-محمد مندور-في الميزان الجديد-دار- نهضة مصر-القاهرة- 2004م