البحث عن المشتركات أحد وسائل تحقيق التعايش بين البشر، وإغفال المشترك التاريخي عائق أمام بناء الهوية الجامعة، وإذا كان المسلمون الهنود يعيشون كأقلية في الهند رغم أن عددهم يزيد على المائة والخمسين مليونا، إلا أن الإسلام عرف طريقه للهند مبكرا منذ القرن الأول للهجرة، وعرفت الحضارتين الإسلامية والهندية تفاعلا مبكرا سبق في بعض أوقاته تعرف المسلمين على الحضارة اليونانية، فالمسلمون هم الجسر الذي عبرت عليه  علوم الهند إلى العالم بعد تطويرها في مراكز الحضارة الإسلامية، كما أن فهم المختلف ثقافيا ودينيا والاعتراف به من عوامل خلق التعايش وبناء جسور التواصل الإنساني والحضاري.

ويأتي العدد الأخير من مجلة “الهند” شتاء 2018، التي بدأت في الصدور منذ العام 2012، والتي يشرف عليها الدكتور “أورنك زيب الأعظمي” لتقدم اقترابا مميزا لقارئ العربية حول الثقافة الهندية وما يقدمه العلماء المسلمون الهنود من إضافات للثقافة العربية والعلوم الإسلامية، وما يميز هذا العدد أنه سعى للبحث عن الجذور البعيدة في التواصل والتفاعل بين الحضارتين الإسلامية والهندية، ليؤكد أن التفاعل كان قديما ومؤثرا، وله فضله الكبير على البشرية حتى الآن، ولعل أوضح مثال على ذلك هو الأرقام العشرية (1-2-3..) التي نقلها المسلمون إلى العالم بعض ابتكار “الصفر” والتي أحدثت ثورة كبيرة في طريقة كتابة الأرقام سهلت استخدامها وفهمها ومكنت تلك الطريقة من التعبير عن الأعداد الضخمة بأسلوب بسيط سلسل، كما قدم العدد اقتربا من الديانة والثقافة الهندوسية التي يدين بها الكثير من سكان الهند، وكيف استطاع  الإسلام أن يشكل تحديا كبيرا لها بإعلانه مبدأ المساواة بين الناس، وهو ما شكل هزا عنيفا للأسس الاعتقادية التي تقوم عليها الهندوسية التي تقسم البشر إلى أربع طبقات.

لقاء الحضارتين

اشتهرت الهند قبل الإسلام بأنها بلد الفلسفة والعلوم، وكانت للهنود معارفهم العلمية الواسعة، التي تحدث عنها الأديب الجاحظ (المتوفى 255هـ) فأشار إلى تقدمهم في علم الفلك والحساب والطب، كما وصفهم المؤرخ اليعقوبي في تاريخه بالقول”والهند أصحاب حكمة ونظر”، ومنذ بداية العصر العباسي بدأ التواصل بين الحضارتين الإسلامية والهندية يزداد قوة، وكان أول اتصال بين المسلمون والهنود في علم الطب عندما استعان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (المتوفى 158هـ) بأحد الأطباء الهنود بعدما أصيب بمرض عام (154هـ)، وعندما نشطت حركة الترجمة العباسية مع تأسيس بيت الحكمة في بغداد في عهد هارون الرشيد، قدم إلى بغداد الطبيب الهندي “منكه” وكان من أكابر صناعة الطب والفلك والفلسفة في الهند وقد عالج الرشيد، واستطاع “منكه” تنظيم عمل المستشفيات في بغداد ودرس بعض المسلمين على يديه الطب، ومع ترجمت الكثير من ذخائر الحضارة الهندية للعربية خاصة في المجال الطبي ومنها كتاب “سسرد” وهو يتناول الأمراض وطرق علاجها والعقاقير المستخدمة في ذلك وعدد من عمليات الجراحة، وكتاب “جرك” وهو من أهم المصادر التي اعتمد عليها أبو بكر الرازي في موسعته الطبية الكبيرة “الحاوي في الطب”، وظل الطب الهندي حاضرا في المعالجات العربية حتى القرن الثالث الهجري، حيث أخذ الطب الإسلامي في النهوض واستيعاب ما سبقه من كتب  الطب في الحضارات المختلفة ليضيف إليها ويطورها.

وفي علم الفلك، يأتي كتاب “سد هانتا” أو كتاب “السند هند” وهو من أهم الكتب الهندية التي أثرت في الحضارة العربية، حيث وصلت سفارة هندية إلى بغداد سنة (156هـ)، فأمر الخليفة المنصور أن يترجم الكتاب إلى العربية، وأن يُؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلا في حركات النجوم والكواكب، وكان الكتاب بداية كبيرة للتفاعل المسلم مع الثقافة والعلم الهندي، وأصبح هذا الكتاب مؤثرا في علم الفلك عند المسلمين أكثر من خمسين عاما حتى جاء عصر الخليفة المأمون، أي حتى ترجمة كتاب “المجسطي” لبطليموس فصار العلماء المسلمون يروجون لعلم الفلك اليوناني على حساب التأثير الهندي.

وفي علم الرياضيات، تعتبر الأعداد العشرية في الأساس هندية وأخذها العرب عن الهنود ومنها انتقلت إلى الغرب، حيث استخدم الهنود هذه الأعداد قبل العرب بحوالي ألف عام، فتم التعبير عن الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمته التي يستمدها من مكانه في العدد، فضلا عن قيمته الذاتية، وهي طريقة عبقرية تمسكت بها البشرية حتى الآن، ويعتبر كتاب “أرجهند” من أوائل الكتب الهندية وأهمها التي تعلم منها العرب الأرقام الحسابية والنظام العشري، واشتهر من الهنود المسلمين في الرياضيات “أبي الرضا رتن” الذي أطلق عليه “عظيم السند”، وكان الحضارة الهندية متقدمة في الكيمياء والفيزياء، كما كان الهنود مهتمين بالتدوين ووضع السجلات في المعابد الهندوكية، لذلك قال الجاحظ“ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب الكثير والبسيط، ولبطلت معرفة التضاعيف”.

الهندوسية..والطبقية

تناولت مجلة الهند دراسة عن العوامل المؤثرة في نشأة الفكر الهندوسي، فالاعتقاد الهندوسي من أقدم الاعتقادات في التاريخ البشري رغم أنه لا يُعرف مؤسسه، والهندوسية ديانة وثنية يعتنقها أهل الهند وعدد من بلدان جنوب شرق آسيا، وتشكلت عبر مسيرة طويلة من الزمن بدأت منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وهي ديانة تضم قيما روحية وأخلاقية ومبادئ قانونية، وهي ديانة مرنة سمحت للكثير من الأيديولوجيات والعقائد بالتأثير فيها وتشكيلها، لكنه منذ القرن الثامن قبل الميلاد تطورت على أيدي الكهنة البراهمة، ثم اتخذت اسم الهندوسية وباتت تشمل الحضارة والعادات والتقاليد والدين، ولها العديد من الكتب المقدسة، لكن البحث في عقائدها يكشف عن آلاف من “الآلهة” التي يقدسونها، وكل واحد منها يختص بمهمة، حتى قال المؤرخ “ول ديورانت” في كتابه قصة الحضارة” أنه لو تم إحصاء آلة الهند لاقتضى ذلك مائة مجلد.

والمعروف أن النظام الاجتماعي في الهندوسية طبقي يتكون من أربع طبقات، يتربع البراهمة أعلاه، وأدناه “الشودر” وهم المنبوذون الذين يخدمون بقية الطوائف ويمتهنون المهن الشاقة والقذرة، وعندما وصل الإسلام إلى شبه القارة الهندية في نهاية القرن الأول الهجري، كان المجتمع الهندي يعج بالفوضى والأديان والطبقية، وكانت الامتيازات تحصل عليها طبقة البراهمة، لذا كانت من أكثر الفئات التي تصدت للإسلام حفاظا على مكانتها الاجتماعية ومصالحها، في ظل دين يدعو إلى المساواة بين الناس، ولعل هذا ما يفسر النجاح الكبير الذي حقق الإسلام في الهند عند دخوله وانتشاره الواسع والسيطرة على أهم المناطق، كذلك أثر الإسلام في الديانة الهندوسية تأثيرا كبيرا، خاصة في مسألة النظام الطبقي الذي تقوم عليه الهندوسية، كذلك حد الإسلام من عادة “الساتي” وهي أن تحرق الزوجات أنفسها في حين وفاة زوجها، وهو تأثير قديم أشار إليه الرحالة “ابن بطوطة” الذي زار الهند ومكث فيها ثماني سنوات في القرن الثامن الهجري، حتى الصلاة الهندوسية تأثرت بصلاة المسلمين في بعض أركانها، بل الغريب أنه في منطقة البنجاب ظهرت جماعة تسمى (المسلمين-البراهما) بل إن المعابد الهندوسية تأثرت بنظام المساجد وفكرة العبادة والصلاة الجماعية.

وتناول العدد حياة وجهود العلامة المحقق “عبد الرحمن اليماني المعلمي” (المتوفى 1996) في إحياء التراث العربي بمجلس دائرة المعارف العثمانية[1]، تلك الدار التي نشطت في إحياء التراث العربي في مدينة حيدر آباد، وعمل في تلك الدار كثير من كبار المحققين والعلماء في اللغة والتحقيق، ومنهم “المعلمي” الذي ينتمي إلى اليمن وقضى حياته في خدمة اللغة العربية فعاش في حيدر آباد  قرابة الثلاثين عاما موظفا في دائرة المعارف العثمانية، وتمحورت تحقيقاته حول كتب الحديث وعلومه، فحقق حوالي أربعين مجلدا، وعندما ترك الهند بعد سقوط المملكة الآصفية الإسلامية عام 1948  رحل إلى مكة فنصبته الحكومة السعودية أمينا عاما لمكتبة الحرم المكي ومكث في السعودية قرابة الستة عشر عاما.


[1] جمعية دائرة المعارف العثمانية هي بيت للعلم تأسس في 14 جمادى الثاني 1308 هـ (الموافق 24 يناير 1891) في الدولة الآصفية نظام حيدر أباد الدكن بالهند، استهدفت دائرة المعارف العثمانية التنقيب عن المخطوطات والمؤلفات العربية والإسلامية وتحقيقها وطباعتها ونشرها في أرجاء العالم الإسلامي.