ينقضي العمر، وربما تنتهي دورة حضارية كاملة، والناس يسألون أنفسهم: من نحن، وماذا نريد ولماذا يحدث لنا كذا وكذا، وهل هذا أنفع لنا أو هذا؟ أسئلة كثيرة تبدأ، ولا تنتهي حول مسائل جوهرية في حياتنا، وتقل هذه الأسئلة، وتتضاءل في حالات الركود الحضاري، وتتدفق كالسيل الجارف، في بدايات الانطلاقات الحضارية الكبرى،  وكلما حدث تواصل عالمي واحتكاك أممي أكبر…

الإنسان متشوق جداً إلى فهم نفسه وفهم مكانته ودوره في بيئته وعصره، لكنه كلما حاول ذلك وجد أن عتاده لبلوغ ما يريد غير مكتمل، بل يجد نفسه مفتقراً إلى مقارنة مالديه بما لدى غيره، وإلا لم يحصل على شيء ذي قيمة. ولعلي أتحدث هنا عن هذه القضية عبر الحروف الصغيرة التالية:

1- الطبيعة البشرية كينونة غامضة، واكتشافها يتم بالتدريج ومن خلال الظروف والمعطيات الجديدة، فنحن لانعرف كل شيء عما يُدخل علينا البهجة، ولا كل شيء عما يزعجنا كما أننا لانعرف ماينبغي أن نعرفه عن الأمور التي تحرَضنا على الصلاح والإنتاجية العالية، ولا ماينبغي أن نعرفه عما يدفع بنا نحو الانحراف والانحطاط والخمول، ومن أجل  تلمس هذا يشتغل ألوف الباحثين، وعلى الرغم من كثرة ما أنتجوه من بحوث وأفكار في هذا الشأن إلا أن مازال ما هو مجهول أكثر مما هو معروف، ومازال لدينا الكثير من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة. إن الناس حين يوضعون في ظروف جديدة مثل الثراء الفاحش، أو الفقر الشديد أوالخطر العظيم يكتشفون من خلال ردود أفعالهم القيمَ التي يؤمنون بها ونوعية علاقتهم بالحياة والأحياء، ومن خلال كل ذلك يعيدون تعريف أنفسهم، وينشأ عن كل ذلك رؤية جديدة للمستقبل، وتفسير جديد للماضي …

يقول جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- مشيراً إلى التغيرات التي حدثت بعد وفاة النبي– صلى الله عليه وسلم-: “ما منا إلا نال من الدنيا، ونالت منه إلا عمر وابنه”. نعم إن الظروف الجديدة تحمل معها دائماً معها اختبارات جديدة، ونتائج الاختبارات دائماً متفاوتة.

2- أنا أشبِّه محاولاتنا لفهم أنفسنا ومحيطنا، وما الذي يجب علينا فعله بشخص يسير لأول مرة في صحراء مترامية الأطراف وخالية من العلامات حيث لايرى سوى سماء ملبَّدة بالغيوم وأرض مستوية وغير معبدة، إنه في هذه الحالة في أمس الحاجة إلى من يحدد له وجهته، ويدله على طريق يبلغه مأمنه حتى يخرج من التيه الذي وجد نفسه فيه، ولايُشترط أن يكون من يرشده على صواب، بل قد لايكون لدى ذلك الساري  أي وسيلة للحكم على مدى صحة ما يشير عليه به … هكذا نحن دائماً في حاجة إلى مرآة نرى فيها صورتنا، وإن صانع تلك المرآة هو الذي يحدد شروط انعكاس صورتنا عليها، وحين كنا نقود مركب الحضارة كنا نحن صنَاع المرآة، وكنا نحدد للناس شروط العيش الكريم، كما كنا ندل العالمين على طرق الخلاص، وعلى سبيل المثال، فقد كان من المألوف في إيطاليا في القرن الثالث عشر الميلادي أنه لايتم تعيين أمين لمكتبة عامة، مالم يكن يجيد العربية، لأن كثيراً من محتويات المكتبات كان باللغة العربية. إذن قيادة الأمم لاتتم من خلال شن الحروب عليها، ولا من خلال استغلال ضعفها، وإنما تكون من خلال الأهلية الحضارية لتعريفها على ذواتها، وتعريفُها على ذواتها لايكون إلا من خلال تقديم الكثير من المثل والأفكار وإنتاج الكثير من الأشياء التي تعتقد تلك الأمم أن من الصعب عليها أن تعيش من غيرها، وهذا ما تفعله الدول الصناعية اليوم.

3- تشهد النخب الثقافية لدينا اليوم صراعاً واضحاً حول تحديد هويَة الأمة، ويقوم جدل واسع حول جوهر العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين مالدينا من عقائد وقيم وموروث ثقافي من جهة وبين النهضة ومتطلباتها وتكاليفها من جهة أخرى، ونحن لا نتوقع لهذا الجدل أن يجد أي نهاية، مادمنا لم نُكمل اكتشاف أنفسنا ومعرفة ما نريده على وجه دقيق، لكن أود أن أقول: إن الدفاع عن الهوية من خلال شرح فضائلها وبيان أهميتها وفوائدها لن يجدي كثيراً في مقاومة طوفان الأفكار والسلوكيات الغازية، حيث أثبتت التجارب التاريخية للأمم أن الدفاع المباشر عن الثقافة والهوية والموروثات الروحية والخلقية، وحث الناس على التمسك بها يظل ضعيف التأثير، وذلك لأن كل جديد يغرينا بتجريبه، وحين نجربه، فقد نجد فيه مالم نجده في القديم، ومن هنا فإن خير وسيلة للحفاظ  على الهوية هو أن نشارك في بناء الحضارة، وأن نساهم في صناعة المرآة عوضاً عن إدمان شرائها، فالروحي والمعنوي متداخل تداخلاً شديداً مع المحسوس والمادي، وحين نتمكن من إنتاج المادي على وجه حسن وفق شروط صالحة، فإن المتوقع أن يتحسن مستوى الروحي، والعكس صحيح.