وُلد المحقق السوري العلَّامة إبراهيم عمر الزِّيبق في دمشق عام 1953م، عمل في منتصف سبعينيات القرن المنصرم – أي وهو في أوائل العشرينيات من عمره – أمينًا لقاعة الباحثين في المكتبة الظاهرية، فعرف فيها المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني، والعلامة أحمد راتب النفاخ رحمهما الله، وفي ربوعها اجتمع بالعلامة شعيب الأرنؤوط الذي غدا رأس مشايخه، وقد أخذ بيده في عالم التحقيق.

شغف الزِّيبق بتحقيق التراث منذ أوائل عام 1980م، فصدر من تحقيقه: الجزء الخامس عشر من “سِير أعلام النبلاء” للذهبي عام 1983م، وهو أول أعماله المحققة قاطبة، ثم الجزء التاسع والعشرون من “مختصر تاريخ دمشق” لابن منظور 1988م، والجزء الثالث والرابع من “طبقات علماء الحديث” لابن عبد الهادي 1989م، والجزء الثاني عشر من “البداية والنهاية” لابن كثير 2007م. وشارك في تحقيق “مسند الإمام أحمد“، وتخريج أحاديثه مع أستاذه شعيب الأرنؤوط وصديق عمره العالم المحقق الثبت الحافظ الجامع محمد نعيم العرقسوسي، محقق كتاب “توضيح المُشْتبه في ضبط أسماء الرُّواة وأنسابهم وألقابهم وكُناهم” لابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) في عشرة أجزاء.

لكن أبرز أعمال الزِّيبق التي ملكت عليه لبّه كُتب أبي شامة المقدسي (ت 665هـ) التاريخية؛ فأبو شامة – على حد قوله – هو وحده مَن استطاع صوغ تاريخه عن نور الدين وصلاح الدين وَفق رؤيةٍ إصلاحية، مبرزًا منهج عملهما لمَن أراد أن يقتدي بهما؛ لذلك أعاد تحقيق كتابه “الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية”، وصدر في خمسة أجزاء عام 1997م. ويرى الزِّيبق أن هذا الكتاب يكتسب الآن أهميةً خاصّة في ظل صراعنا مع الصهيونية؛ نظرًا للتشابه الواضح بين الصليبيين والصهيونيين، وبيَّن أن الصهيونيين يدركون هذا التشابه بين احتلالهم لأرضنا واحتلال الصليبيين لها من قبلُ، فهناك فِرق عملٍ كاملة في الجامعة العبرية، تقوم بدراسة موقف أجدادنا، وتحلله من جذوره؛ كي يتفادوا نهايةً كنهاية حطين وما تلاها.

 

الزِّيبق وكتب أبي شامة التاريخية
كتاب “الروضتين في أخبار الدولتين”

وإن تعجب فعجبٌ أن الزِّيبق – من فرط حبّه لأبي شامة ولكتابه “الروضتين” – عاش زمنًا في المدرسة العادلية الكبرى بدمشق التي عاش فيها أبو شامة عندما ألَّف هذا الكتاب، وحقق الكتاب فيها، وذكر أنه كثيرًا ما كان يلقي بالقلم، ويتمشى في باحتها، يتفيأ ظلال أشجار الليمون والنارنج، ويتحسس نبض الأحجار التي اكتحلتْ عيونُها برؤية أبي شامة، شاعرًا أن ما يفصله عنه تسع سنوات، لا تسعة قرون.

وأوفى من ذلك أنه زار قبر أبي شامة أكثر من مرةٍ بمقبرة الفراديس بدمشق المعروفة الآن باسم مقبرة الدحداح، بل إنه اقتفي أثره في قوله عن نفسه “عفا الله عنه”؛ فقد قال أبو شامة في ترجمته لنفسه في حوادث سنة 599هـ: “كان المذكور – وفقه الله تعالى – لا يكاد يكتب اسمه في فتوى، أو شهادة، أو طبقة سماع، أو نسخ كتابٍ إلا أردفَ اسمه بكتابة عفا الله عنه.

بيَّن الزِّيبق أن طبعة وادي النيل لكتاب “الروضتين” الصادرة بمصر عام 1277هـ = 1871م، ثم نشرة الدكتور محمد حلمي محمد أحمد التي ظهر الجزء الأول منها عام 1956م، والثاني عام 1962م، وصدرت تتمتها عام 1997م بعد وفاة الدكتور محمد سنة 1984م وكان قد أتمَّ تحقيقه قبل وفاته رحمه الله، بيَّن أن فيهما أوهامًا وتحريفات وتصحيفات كثيرة.

من المعروف أن كتاب “الروضتين” يحتوي على عددٍ كبير من القصائد الشعرية والمصطلحات اللغوية التاريخية، أما تحقيق الشِّعر، فقد ذكر الزِّيبق أنه رجع إلى أستاذه العلامة النفاخ – الذي شبهه بأبي شامة لتبحره في التاريخ وعلو كعبه في القراءات القرآنية، وهما العِلمان اللذان سطع نَجم أبي شامة فيهما – فذلل له ما أَشكل عليه من الأبيات، خاصة من شعر ابن منير الطرابلسي (ت 548هـ = 1153م). وأما المصطلحات التاريخية، فقد أوفاها بحثًا ودراسة على مدار الكتاب؛ فعلى سبيل المثال كلمة “الفطائر” – التي عجز أستاذه النفاخ عن تفسيرها – تبيَّن للزِّيبق أنها اسمٌ كان يطلق في ذلك العصر على الجدران الترابية التي تفصل ما بين بساتين غوطة دمشق، وفسر سبب هذه التسمية بأن التراب كان يُدَكّ بين دفين كبيرين من خشب مثبتين بعوارض خشبية، فكان إذا نشف الطين رفع منه دفا الخشب والعوارض، فيتخلف عن هذه العوارض فتحات. وكان الدمشقيون يكمنون خلف هذه الجدران، ومن خلال فتحاتها كانوا يطعنون برماحهم كل مَنْ يحاول العبور من الصليبيين، ويطلق على الجدار منها الآن اسم “الدَّكّ”.

ويشير الزِّيبق إلى أن تحقيق الدكتور محمد حلمي للروضتين وقع فيه بأوهام تشعر القارئ أنه كان غريبًا عن النصِّ، غريبًا عن روحه وأماكنه وحوادثه؛ لذلك راودت الزِّيبق فكرة تحقيق الكتاب كاملًا منذ قراءته له، واهتمامه بأخباره في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حتى عزم أمره أخيرًا، وهيَّأ نُسخه الخطية، وشرع في تحقيقه مع مطلع عام 1988م، وفرغ منه عام 1996م، ثم صدر في خمسة أجزاء عن مؤسسة الرسالة في بيروت عام 1997م.

وبيَّن الزِّيبق أن كتاب “الروضتين” يعد أهم كتاب احتفظ بشعر أحمد بن منير الطرابلسي، وأثنى على جهد الدكتورين سعود محمود عبد الجابر وعمر عبد السلام تدمري في جمع شِعره، لكنه أشار إلى أن الطبعتين سقيمتان مشحونتان بالأخطاء والتحريفات، خاصة عند مقارنتهما بما حققه هو من شعره في “الروضتين”؛ فالبون بين ما جمعاه وما حققه الزِّيبق واسع دقةً ووضوحًا.

وينوَّه الزيبق بأمرٍ من الأهمية بمكانٍ يتعلق بمختصرات كتاب “الروضتين”؛ فهو يؤكد أن أبا شامة وضع له مختصرًا صغيرًا، لكنه لم يسمه، أما كتاب “عيون الروضتين” فتسميته وضعها العلامة المحدث الشيخ خليل بن كيكلدي بن عبدالله العلائي الدمشقي (ت 761هـ) لمختصر أبي شامة وللزيادات التي جمعها العلائي نفسه؛ فقد جاء في خاتمته: “آخر المختصر والمضاف إليه كلاهما من كتاب الروضتين، فرغ منه كتابةً وتنقيحًا خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي…”. وهذه الخاتمة التقطها الدكتور صلاح الدين المنجد، وجعلها عنوانًا للكتاب؛ فأطلق عليه “المختصر والمضاف لكتاب الروضتين لأبي شامة”، وكان المنجد قد عثر على نسخة من المختصر بخطّ أبي شامة في مكتبة كوبريلي بتركيا برقم (1153)، وقد اطلع الزِّيبق عليها في أثناء زيارته لإسطنبول، لكنه لم يجد ما يدل على أنها بخطّ أبي شامة.

وقد حقق نسخة العلائي الأستاذ أحمد البيسومي، وصدرت في جزأين عن وزارة الثقافة بدمشق سنتي 1991 و1992م، على أنها مختصر أبي شامة لكتاب الروضتين، وقد أغفل محققه على غلاف الكتاب ما قام به العلائي، مقتصرًا فيه على ذكر أبي شامة، وكأن الكتاب هو من اختصاره وحده، بل إن محققه نسب تسميته “عيون الروضتين” لأبي شامة من دون أن يبيِّن مستنده في ذلك.

أما “المذيَّل على الروضتين” فأعاد الزِّيبق تحقيقه، وصدر في جزأين عام 2010م بدار الرسالة العالمية ودار البشائر الإسلامية، بيَّن الزِّيبق أن الكتاب طُبع في القاهرة عام 1947م تحت عنوان “تراجم القرنين السادس والسابع المعروف بالذيل على الروضتين”، صححه الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقًا، وعُني بنشره وراجع أصله ووقف على طبعه السيد عزت العطار الحسيني، واعتمدا في إخراجه على نسخةٍ خطية في دار الكتب المصرية كُتبت عام 967هـ، وأشار أنها نسخةٌ سقيمة؛ إذ فشا فيها التحريف والتصحيف، وفات الشيخ زاهد الكوثري أن يتنبه لها، إضافة لما أخطأ هو في قراءته والفنُّ ليس بفنِّه، بل إنَّ في النسخة زيادات ليست لأبي شامة، أدخلها الناسخ خطأ في متن الكتاب، وقد سقط منها أخبار في حوادث سنة 664هـ، واضطربت أوراقها في آخره؛ مما جعل حوادث السنوات (663هـ، 664هـ، 665هـ) تتداخل فيما بينها، وتُذكر في غير سنتها التي وقعت فيه. كما ذكر أن ناشري الكتاب أخطأا كذلك في تغيير عنوانه الذي ارتضاه أبو شامة له، وهو “المذيَّل على الروضتين”، فسمياه اعتمادًا على هذه النسخة السقيمة “الذيل على الروضتين”، ثم أضافا إلى عنوانه “تراجم القرنين السادس والسابع”، وهو لا يشي حقيقةً بتاريخ تراجمه؛ فليس فيه من تراجم القرن السادس إلا السنوات العشر الأخيرة منه، ولم يكملْ تراجم القرن السابع؛ حيث وصل إلى سنة 665هـ.

وأثنى الزِّيبق على جهد العلامة مصطفى جواد في تتبع بعض أخطاء طبعة الكوثري، التي نشرها في مقالين بمجلة المجمع العلمي العربي بدمشق في المجلدين (23، 24)، إلا أن هذا الجهد المشكور لم يسد رمق الزِّيبق؛ فقد قال: “كنتُ كلما طالعتُ الكتاب تتشوَّف نفسي لتحقيقه وَفق المنهج العلمي، حتى شرفني الله بذلك، بعد فراغي من تحقيق كتاب الروضتين، واعتمدتُ في تحقيقه على خمس نسخٍ خطية”.

ويرى الزِّيبق أن العلامة مصطفى جواد جار قلمه وطغى عليه في حديثه عن “المذيل” حين قال فيه: “طالعتُ هذا المذيل، وأكثر حوادثه مأخوذة من مرآة الزمان لسِبْط ابن الجَوْزِيّ”، فالزِّيبق يرى أن هذا الحكم لا يسلم له فيه، حتى في الجزء الأول من “المذيل”؛ إذ إن كثيرًا من أخباره قد نقلها أبو شامة عن غير سبط ابن الجوزي، أمثال: العماد الكاتب (ت 597هـ)، وتاج الدين الكندي (613هـ)، وابن المستوفي (ت 637هـ)، وابن الدّبيثي (ت 637هـ)، وعز الدين محمد ابن عساكر (ت 643هـ)، وشهاب الدين النَّسوي (ت 647هـ)، وأبي العرب إسماعيل بن حامد الأنصاري القُوصي (ت 653هـ)، إضافة لما كتبه هو من إنشائه.

ويتعجب الزِّيبق ممن جاء بعد مصطفى جواد من المؤرخين؛ فهم كانوا أشد قسوة وجورًا في الحكم، فقد قال الدكتور جوزيف نسيم في كتابه “العدوان الصليبي على بلاد الشام” حين حديثه عن مصادره فيه، وذكر منهم أبا شامة، قال: “وله المذيل على الروضتين الذي لم يزد فيه شيئًا جديدًا عما كتبه سبط ابن الجوزي عن هذه الفترة”، وكذلك قال مثل قوله الدكتور محمود سعيد عمران في كتابه “الحملة الصليبية الخامسة”: “لم يأتِ أبو شامة في كتابه المذيل على الروضتين بجديدٍ أكثر مما ذكره سبط ابن الجوزي؛ إذ يلاحظ أنه نقل عنه”، ومع ذلك يقر الزِّيبق لهؤلاء المؤرخين المحترمين حقًّا بالفضل والمعرفة، ولكنه يتعجب من إطلاقهم الأحكام على عواهنها دون استقراءٍ تامّ أو تجوزٍ في العبارة، ويتساءل قائلًا: “فما بالك ممن يكتب في التاريخ، وهو متطفلٌ على موائده!.

لم يكتفِ الزِّيبق بإعادة تحقيق كتب أبي شامة التاريخية، وإنما تولَّى تحقيق ما لم يحقَّق منها؛ فقد حقق كتابه “نزهة المقلتين في سِيرة الدولتين العلائية والجلالية وما كان فيهما من الوقائع التاتارية”، وصدر عن دار البشائر الإسلامية ببيروت عام 2015م، وأهداه لصديقه رمزي دمشقية مؤسس هذه الدار. وكان صديقه الأثير المحقق الكويتي محمد بن ناصر العجمي قد أرسل إليه نسخةً مصورة من مخطوطة الكتاب، وكتب على صفحتها الأولى: “نسخة أصيلة عليها خطّ الحافظ العلائي، أتمنى أن تُبعث على يديك”، فتولَّى الزِّيبق تحقيقها مستكملًا بذلك إخراج أهم آثار أبي شامة التاريخية.

الزِّيبق وكتب أبي شامة التاريخية
كتاب نزهة المقلتين في سِيرة الدولتين العلائية والجلالية

 

ويرى الزِّيبق أن أبا شامة قد اختصر هذا الكتاب من “سِيرة السلطان جلال الدين مَنْكَبُرتي” لشهاب الدين النَّسوي، عقب فراغه مباشرة من تأليف كتابه “الروضتين”، وهو بذلك يكمل رؤياه الإصلاحية – التي أشرنا إليها آنفًا – ليضعها بين يدي ملوك عصره: العدل الذي يعمر البلاد عبر سِيرتي نور الدين وصلاح الدين، والظلم الذي يفضي إلى الخراب عبر سِيرتي علاء الدين محمد الخوارزمي وابنه جلال الدين.

جديرٌ بالذكر أن الزِّيبق قد وضع دراسةً في غاية الأهمية عن أبي شامة بعنوان “أبو شامة: مؤرخ دمشق في عصر الأيوبيين – دراسة تحليلية في سِيرته وآثاره التاريخية”، لم يتركْ شاردةً ولا واردة عن أبي شامة إلا سطَّرها في هذا الكتاب البالغ عدد صفحاته 541، صدر عن مؤسسة الرسالة عام 2010م. ويكفيك لتعرف مدى حبّه لأبي شامة – وأنا أقاسمه هذا الحب، وإنْ كانت قسمة ضِيزَى؛ فحبه قول وفعل، وحبي يكاد يكون مجرد قول – ما ذكره في الإهداء من أن أبا شامة كان واحدًا من أفراد أسرته مدة كتابة الكتاب ذاكرًا أنه في أثناء كتابة سِيرة أبي شامة ودراسة مؤلفاته التاريخية، عاش معه أشواقه وآماله، وخيباته ونجاحاته، وأحزانه وأفراحه، حتى إنه كان يتراءى له أحيانًا مِن خلال سطوره، وأحيانًا كاد يحسُّ بمشاعره وهو يدوِّنُ أخباره.

وفي هذا الكتاب فنَّد الزيبق بعض ما درج عليه المعاصرون من المؤلفين والباحثين حول أبي شامة؛ فمثلًا شكَّك في أن يكون النووي من تلاميذه حسب ما ذكره السخاوي في كتابه “الإعلان بالتوبيخ”؛ إذ لو كان من تلاميذه لأشار النووي إلى ذلك، ومع ذلك فالنووي قد تتلمذ على كُتبه، واختصر كتابه “البسملة الأكبر”، وضمنه في كتابه “المجموع”.

كما أنه يرى أن قصيدة أبي شامة في مدح زوجته ست العرب، بعيدًا عن قيمتها الشعرية التي انتقدها الصفدي في ترجمته لأبي شامة بكتابه “الوافي بالوفيات”، وعن الظروف التي أَمْلتها على أبي شامة، فإنها صورت بتفصيلٍ دقيق جانبًا من حياة المرأة في العصر الأيوبي: امرأة من عامة الشعب، وهي تغسل وتطبخ وتطرِّز، وترعى ولدها وزوجها، بلفظٍ معبِّر، وعفوية آسرة، وهي لا تعجب – حسب تعبير الزِّيبق – مَن اعتاد أن يرى المرأة في الشعر عيونًا كحيلة، وأردافًا ثقيلة.

وبالرغم مما تعانيه دمشق من اضطرابات وقلاقل منذ سنة 2011م حتى الآن، وما يشكوه الزِّيبق من “تصدعٍ في الإلف، وتشتتٍ في البال، وجوًى في القلب”، ما يزال يعيش في دمشق، فلعله بذلك يأتسي بمؤرخه الأثير أبي شامة الذي آثر البقاء في دمشق عندما سيطر عليها المغول سنة 658هـ = 1260م، ولم يرحلْ إلى الديار المصرية كما فعل كثيرٌ من سكانها أيامئذٍ. فلَعَمْري إنه أبو شامة هذا العصر.