استهدف المستشرقون السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع بالتشكيك والعبث وانتحال الشبهات المختلفة، وشهّر ذلك بعض الدخلاء من أبناء المسلمين[1]، وكان أكثر هذه الشبهات انتشارا ورواجا شبهة “إهمال المحدثين نقد المتن”، وكانوا يزعمون أن المحدثين “اقتصروا في فحصهم الحديث على نقد سند الرواية دون متنها، وأنهم لم يتجاوزوا النقد الخارجي. فأصحاب الحديث من وجهة نظرهم يصححون المرويات اعتمادا على صحة أسانيدها فقط. ولم يكلفوا أنفسهم نقد المتون وفحصها وتمييزها من الداخل. وعلل بعضهم هذه الظاهرة المزعومة بما نسب إلى العقل العربي أو العقل السامي من وقوف عند الأشكال وعدم التعمق في فهم الموضوع”[2].
وهذا الوصف وسم منهج المحدثين بالقصور والخلل والسطحية وعنايته بالشكل الخارجي الذي لا يعد مهما على حساب المضمون، فإنهم حسب رأيهم وُجدت أحاديث كثيرة تتعارض مع القواعد العقلية الصحيحة أو الأصول الدينية، مثل ما يدعيه رشيد أيلال المغربي حين قال: ” إن علم الرجال أنصب على دراسة رجال الحديث دون النظر في المتن – وهو الأهم – فبدؤوا يجرحون على هواهم متأثرين بالعصبية المذهبية، وبالشائعات أحيانا .. إن علم الرجال يعني ببساطة أن المحدثين يستدلون على الحقيقة بالرجال ويهتمون بمن قال أكثر مما قال..”[3].
وقبل بيان منهج المحدثين في نقد الحديث سندا ومتنا، وتوضيح أسباب اشتهار نقد الحديث من جهة الإسناد أكثر من فحص ونقد الحديث من جهة المتن، فإنه لا بد أن نقف قليلا مع بيان المراد بالنقد عند المحدثين وتاريخه في فكر التشريع الإسلامي.
يطلق النقد في اللغة على التمييز بين الأشياء بقصد الفصل بين جيد الأشياء ورديئها، وإخراج ما فيها من الزيف. وتبعا لهذا المعنى اللغوي، يعرف النقد في مصطلح المحدثين بأنه علم يبحث في تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، وبيان عللها، والحكم على رواتها جرحا وتعديلا، بألفاظ مخصوصة، ذات دلائل معلومة عند أهل الفن[4].
وعلم النقد في الحديث يعد أهم الجوانب التطبيقية في علم الحديث دراية، فكما هو معلوم أن علم الحديث النبوي يرتكز على ركنين أساسيين: 1- علم الرواية 2 – وعلم الدراية، فإن الجانب الذي يميز أهل الاختصاص في هذا الفن ممن سواهم هو جانب الدراية، فهو جانب يعتمد على الخبرة والممارسة وسعة الاطلاع، والمعرفة بأحوال الأحاديث سندا ومتنا، وتتبع دواوين الكتب الحديثية وهي مظنات النقد. لهذا السبب يصعب على المشاغبين فهم هذه الصنعة فينتقدون دون درية ولا علم.
نشأة علم نقد المرويات
1- بدأ علم نقد المرويات منذ فجر الإسلام، وتعود جذوره التاريخية إلى عصر النبي ﷺ، لكن بقي على نطاق ضيق، ولم تكن هنالك حاجة ماسة إليه، لوجود المشرع بين الصحابة رضوان الله عليهم، وكان الصحابة إذا استشكل على أحد منهم أي أمر، أو استنكر حالة، لجأ إلى رسول الله ﷺ، فكان الصحابة يستوثقون منه، ويحتاطون في الأخبار التي تتناقل عن رسول الله.
وبعد وفاة رسول الله، استمر الأمر على الحيطة والنقد عند الصحابة رضوان الله عليهم، وزاد الحذر أكثر في رواية أحاديث الرسول ﷺ لعظم عقوبة الكذب عليه.
2- من شواهد التثبت والنقد في فترة النبوة: حادثة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما، وقد رآه عمر يقرأ سورة الفرقان بقراءة غير التي أقرأها رسول الله، فانطلق به إلى رسول الله ﷺ يتحقق منه، فأجابهما رسول الله بالحديث المشهور: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ[5] . وهذا كان في زمن الرسول ﷺ كان الصحابة يدققون في الرواية، وعرض الأخبار التي تنقل عنه ﷺ عليه لزيادة التحقق والتثبت.
3- من أمثلة الاحتراز والتثبت في الأخبار في عصر الصحابة: في قصة الجدة التي أتت أبا بكر الصديق تسأله عن ميراثها، قال أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ شَيْءٌ. وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، شَيْئاً. فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ.
فَسَأَلَ النَّاسَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، أَعْطَاهَا السُّدُسَ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟
فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ. فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ[6].
ويتضح أن ما ظهر من نوعية النقد للأخبار في هذا الوقت إنما كان من باب الحيطة والتثبت، فكان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما لا يقبلان رواية من غير شاهد، وكان علي رضي الله عنه يستحلف من يحدثه بالحديث، وتوسع عمر بن الخطاب في هذا التثبت حتى غلب على ظن البعض أنه أول من انتقد الرواية[7].
4 – ولم يكن الأمر مقتصرا في وقت الصحابة على التثبت في الرواية عند الأخذ والأداء، بل كانوا ينقدون المتن بعرض الروايات على أصول الشرع وقواعد الدين، فأخذوا ما وافق القرآن الكريم والسنة الثابتة دون غيره. ويشهد لذلك مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشهيرة حين اعترض على فاطمة بنت قيس أن رسول الله ﷺ لم يجعل لها حين طلقها زوجها سكنى ولا نفقة، فقال عمر: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا ﷺ لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة})[8].
5- وظهر علم النقد أكثر وضوحا بعد انقراض عصر الصحابة، وذلك لازدياد الحاجة وظهور الفتن، وانتشار الكذب والوضع في الحديث، وهذا ما دفع النقاد من المحدثين إلى المزيد من البحث عن الأسانيد، واعتبروها من الدين.
يقول ابن سيرين: ” لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم “[9].
وعبد الله بن المبارك، يقول: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»[10].
6 – وكان النقد ينقل مشافهة ثم جرى تدوينه مختلطا بكتب الرواية، قال ابن رجب: والذي كان يكتب في زمن الصحابة والتابعين لم يكن تصنيف مرتبا مبوبا وإنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط[11]. حتى جاء الناقد البصير يحيى بن سعيد القطان فنال شرف تدوين هذه الأقوال في نقد المرويات في مصنف خاص[12].
وإن تدوين علم نقد الحديث المتأخر لا يغض من قيمة علم النقد شيئا، كما لا يمكن أن يكون مبررا للتشكيك في السنة الثابتة، فإن النقد كما سبق بيانه في النماذج المذكورة لازم رواية الحديث في عصور الصحابة، والفترة التي تفصل بين الرواية بالمشافهة والتدوين قريبة جدا، بل يضفي التدوين على هذا العلم قيمة توثيقية لأن الرواية الشفهية قد تعتريها بعض العوارض، منها النسيان والاختلاط وغيرهما، كما قد يدخل الوثائق المكتوبة المجردة تحريف أو تصحيف.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: “لا شك أن عدم تقييد العلم مبكرا بنطاق واسع والشك في ضيط الذاكرة وعدالة الرواة كان من أقوى تبلور المنهج النقدي عند المسلمين لمحاكمة الروايات المنقولة وخاصة ما يتعلق بالعقيدة والشريعة منها منذ وقت مبكر، مما أعطى الرواية الشفهية التي قبلتها المصادر المكتوبة فيما بعد قيمة توثيقية لم تحظ بها الوثائق المكتوبة نفسها في القرن الأول”[13].