من واقع التجربة والتاريخ والاستقراء النظري والعملي هذه مجموعة من الأساليب العملية لإصلاح ذات البين في أي مصالحة وطنية تتطلع إليها شعوب منطقتنا العربية التي تلاحقها عذابات الماضي بعد تخلص عدد منها من قبضة المستبدين.

1 – المكاشفة الموضوعية:

هؤلاء صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما اختلفوا في أمر الخلافة، كان الأنصار يرون أنهم أحق بها من غيرهم، لأن الخلافة تُركت دون تبيين من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس هناك نص قاطع من الكتاب والسنة ينتهي الناس إليه ويحتكمون به، وهنا لم يبق إلا التحلي بالحكمة والحنكة وآداب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ المؤدي لأنبل المشاعر وأفضلها لدى الطرفين، بالتجاوز واحتواء الأزمة، والخروج منها إلى بّر الأمان، فكانت المكاشفة بين المهاجرين والأنصار فقد تكلم خطيب الأنصار، ثم أبو بكر الصديق ومما قاله ـ رضي الله عنه ـ : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل( )، وأشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج الأمر من الإطار الذي وضعه خطيب الأنصار فيه، فالأمر ليس مقصوراً على المدينة ـ وحدها ـ فالجزيرة اليوم تستظل بظل الإسلام وإن كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم الأنصار بالخلافة ويعرفوا فضلهم، فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش، فبين لهم الأمر بهذا الخطاب الواضح حتى يسلموا الأمر لإخوانهم من قريش.

2ـ الاسترضاء:

قد يكون للطرف الآخر شكوى منطقية، وحق يطالبك به، فما عليك إلا الاعتراف بهذا الحق وإرجاعه ما أمكن، ثم استرضاؤه، لينتهي النزاع ولا يطول يقول فولتير “النزاع الطويل يعني أن كلا من الطرفين على خطأ”.

وقد استرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وعرض نفسه للقصاص قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه. فهذا استرضاء منه وطلب للعفو والمسامحة في الدنيا قبل الآخرة.

وهذا محمد الحنفية رضي الله عنه جرى بينه وبين أخيه الحسين بن علي رضي الله عنهما كلام: فانصرفا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى منزله أخذ رقعة وكتب فيها بعد البسملة: من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه الحسين بن علي، أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإن أمي امرأة من بني حنيفة وأمك فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وسر إليّ فترضاني، وإياك أن أكون سابقك إلى هذا الفضل الذي أنت أولى به مني والسلام، فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه وترضاه.

3 ـ المصارحة والمواجهة الهادئة:

اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في الصفح والعفو وامتثالاً لقوله تعالى:” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” (الشورى، آية: 40).

فقد واجه من قومه كل أنواع الأذى هو وأصحابه من رمي بالحجارة والسخرية والاستهزاء، وما حادثة الطائفة إلا خير دليل على رحمته وتسامحه، فقد جاء ملك الجبال، يريد أن يُطبق عليهم الأخشبين فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ـ عز وجل ـ لا يشرك به شيئاً. دعا لهم بالمغفرة من قلبه الطاهر فقال:” اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

بل زيادة على ما ذكر فإنه كان يحاور أعداءه بلين الجانب والهدوء التام في حواراته وخطاباته، فهذا عتبة بن ربيعة والذي كان سيداً من سادات قومه طلب من قومه أن يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرض عليه أموراً، فأذنوا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس، وبدأ بالحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا أبا الوليد، والتفت إليه بهدوء تام، حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم.

فهذه أخلاقه مع خصومه وأعدائه ومنه نتعلم كيف نواجه الخصم بهدوء تام، وقوة تحكم في المشاعر والأحاسيس وقسمات الوجه وتعبيراته، وعدم الانفعال والغضب، بل علمنا كيف نحاور خصومنا بهدوء، ونستمع إليهم بإنصات حتى إذا انتهوا من كلامهم نبدأ بتوضيح فكرتنا وبيان خطئهم، وصولاً إلى إقناعهم بخطأ فكرتهم أو خطأ سلوكهم، ثم طلبهم بعدم التكرار لمثل هذه الأعمال غير المرغوبة مع إخبار الخصم إذا اقتنع بخطأ ما أقدم عليه.

هذا بعض من هدي الرسول وصحابته في إصلاح ذات البين، ونحن اليوم أحوج ما نكون إليه، في ظل ما تنشده شعوبنا من حرية وكرامة ومحاسبة ومصالحة في ظل القانون.


مراجع:

1. أبو محمد عبد الملك ابن هشام، السيرة النبوية، القاهرة، الطبعة 2، 1955.

2. علي محمد الصلابي، العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية، إستانبول، دار الروضة.