أخذ موضوع مصدر القرآن الكريم منذ القدم حيزًا كبيرًا من اهتمامات الباحثين المسلمين والمستشرقين على حد سواء، فنتجت عن هذا الاهتمام كتاباتٌ عديدةٌ تسعى إلى تحديد مصدر القرآن الكريم. والمتتبع لتلك الدراسات المختلفة -التي استمرت على مدى قرون- يجد أنها (في عمومها) يمكن أن تقسم إلى قسمين رئيسيين، الأول: دراسات إسلامية تُصرّح بأن القرآن كلام الله، ودراسات استشراقية تُحاول أن تُثبت بشرية القرآن الكريم.

ويبدو لنا أن غالبية تلك الدراسات لم تُلاحظ أهمية الاعتماد على البرهان التاريخي العقلي للبحث في مصدر القرآن الكريم، إلى أن ظهرت دراسات جديدة تُحاول أن تبحث في مصدر القرآن الكريم من خلال الاعتماد على البرهان العقلي التاريخي، ولعل من أبرز رواد هذا الاتجاه محمد عبد الله دراز ومالك بن نبي.

وسنحاول في هذه المقالة أن نُسلط الضوء على الأطروحة المنطقية التاريخية التي قدم الدكتور محمد عبد الله دراز من خلال بحثه في مصدر القرآن الكريم، والتي تتلخص في أن هناك ثلاثة احتمالات رئيسية لا يمكن أن يخرج عنها البحث في مصدر القرآن الكريم سواء عند المسلمين أو المستشرقين، وتتمثل في أن القرآن الكريم إما أن يكون قام الرسول محمد بتأليفه بنفسه، وإما أن يكون اقتبسه من الديانات والجماعات التي كانت موجودة في البيئة التي عاشها فيها؛ بمساعدة بعض الأشخاص المحيطين به أو الذين التقوه في مكان ما، وإما أن يكون نزل من السماء على محمد بواسطة جبريل عليه السلام.

هدف الكتاب ومنهجه

في فاتحة الكتاب، صرّح الدكتور محمد عبد الله دراز (1894- 1958م) بهدفه من تأليف كتابه القيم: “النبأ العظيم.. نظرات جديدة في القرآن”، فقال إنه يتمثل في جملة أمور، منها: أن يكشف النقاب عن حلية القرآن الكريم وخصائصه، وأن يرفع النقاب عن بعض الحقائق المرتبطة به، ثم يرسم الطريقة التي ينبغي أن يدرس من خلالها.

أما بخصوص المنهج الذي اتبعه دراز في كتابه “النبأ العظيم” لإثبات أصالة مصدر القرآن الكريم، فقد أعلن أنه “لا يتطلب من قارئه انضواءً تحت راية معينة، ولا اعتناقاً لمذهب معينٍ، ولا يفترض فيه تخصصاً في ثقافة معينة، ولا حصولاً على مؤهل معين، بل إنه يُناشده أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء، إلا من فطرة سليمة، وحاسة مرهفة، ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن”.

وقد انطلق دراز في كتابه “النبأ العظيم” من حقيقة أولية تتمثل في أن الناس علموا “علمًا لا يخالطه شك أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (…)، لا خلاف في ذلك بين مؤمن وملحد”، لكن الخلاف يكمن في الإجابة على سؤال: من أين جاء الرسول محمد بهذا الكتاب؟ وقد أجاب د. محمد عبد الله دراز على هذا السؤال من خلال ثلاثة احتمالات كبرى؛ نستعرضها فيما يلي:

الاحتمال الأول: تأليف النبي للقرآن الكريم بنفسه

يتمثل الاحتمال الأول في أن النبي محمدًا قام بتأليف القرآن الكريم بنفسه، ثم نسبه إلى الله جل جلاله، من أجل أن يكتسب الشهرة والاحترام والثقة بين قومه الأميين، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الادعاء وقام بنقضه بشكل صريح في آياتٍ عديدةٍ، منها قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}.

بدوره، قام دراز بنقض هذا الاحتمال من خلال جملة نقاط، منها: أمية الرسول محمد وعجزه عن تأليف القرآن الكريم، فالنبي ولد أميًا ونشأ في قوم أميين، لكنه جاءهم بكتاب فوق طاقتهم، فكان لا بد أن يتهموه بالافتراء والكذب، ثم إن “المعاني القرآنية لا تدرك بالذكاء والفراسة”، والنبي لم يكن يعلم الغيب، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا في آية صريحة، فقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.

 

الاحتمال الثاني: تأليف النبي للقرآن بمساعدة آخرين

يتمثل الاحتمال الثاني في أن الرسول محمدًا اقتبس القرآن الكريم من الديانات والجماعات التي كانت موجودة في محيطه، وتعلم من أناسٍ عاشوا في بيئته؛ ساعدوه على تأليف القرآن الكريم، ثم خرج على الناس بهذا الكتاب. وقد عبر القرآن عن هشاشة هذا الاحتمال، فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}، وقال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.

ويمكن تقسيم هذا الاحتمال إلى نقطتين، تتعلق الأولى بتعلم الرسول محمد من أشخاص محددين، مثل: ورقة، وبحيرا، والحداد الرومي، وخديجة، وسلمان الفارسي، ومارية القبطية، أما الثانية فترتبط بتعلم النبي محمد من دياناتٍ أو جماعاتٍ معيّنة، كاليهودية، والنصرانية، والحنفاء، والصابئة. وتتمثل الخلاصة التي توصل إليها دراز في هذا المضمار في أن الملحدين عجزوا عن أن يثبتوا صلةً بين الرسول محمد وأهل العلم الديني في عصره، كما أنهم لم يستطيعوا أن يضعوا يده الشريفة على شخص معينٍ أخذ عنه القرآن الكريم، ولذا فإن كل الأدلة التاريخية والمنطقية والشرعية ترفض الاحتمالين السابقين رفضًا باتًا، ومن هنا لم يعد أمام الإنسان إلا التسليم بأن القرآن كلام الله.

 

الاحتمال الثالث: القرآن كلام الله جل جلاله

تتمثل النتيجة التي توصل إليها الدكتور محمد عبد الله دراز -من خلال بحثه في مصدر القرآن الكريم- في أن القرآن كلام الله جل جلاله، وليس للبشر دور فيه، وقد صرح دراز بهذه النتيجة الدقيقة، فقال بصريح العبارة: “هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض أبٌ ننسبه إليه من دون الله”.

وبمجرد العودة إلى القرآن الكريم نجده يحدثنا عن هذه الاحتمالات الثلاثة، كما نجده يقوم بنقض الاحتمالين الأول والثاني، ويثبت الاحتمال الثالث القائل إن القرآن الكريم كلام الله، والحقيقة أن القرآن كله يمثل دليلًا على أنه نزل من السماء وليس كلام البشر. ومن الأدلة القرآنية على هذا الأمر قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}.

ومن الأدلة التي اعتمدها دراز للبرهان على مصدر القرآن الكريم، أن سيرة الرسول تُصرح بأن القرآن الكريم كلام الله جل جلاله، فالنبي “كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تُحفزّه إلى القول، ولكنه لا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس” مثل حادثة الإفك، ثم مخالفة القرآن الكريم لطبع الرسول محمد: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}، وكذلك النهي عن الصلاة على المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}.