الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قديم، قدم بدء الخليقة، وأول من قال به إبليس أعاذنا الله منه، فإنه بعد أن رفض أمر الله بالسجود لآدم ـ عليه السلام ـ واستحق غضب الله عليه بلعنه وطرده من رحمته وإخراجه من الجنة، لم يندم، ولم يتب، ولم يرجع على نفسه باللائمة، بل زاد عصياناً وتمرداً، بإضافة غوايته إلى الله، فقال ” رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ” (الحجر : 39) .

وهكذا تلقى كثير من البشر هذه الحجة الباطلة عن إبليس فغرقوا في الضلال ووقعوا في المعاصي والآثام ثم احتجوا على ذلك بالحجة الإبليسية، وقالوا: هذه شئ قدَّره الله علينا فحملوا مسئولية خطاياهم على ربهم، وهو الذي نهاهم عن تلك المعاصي.

وقد أخبر الله عن أمثال هؤلاء، فقال تعالى: “سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ  كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ” (الأنعام : 148) .

وقال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن  شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ  مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ” (النحل : 35) . وقال تعالى: “وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ  شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ  مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْهُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الزخرف : 19 ـ 20) .

وقد ردَّ الله في القرآن الكريم هذه المزاعم، ووصف أصحابها بالكذب والتخرص، صحيح ما يجري في الكون يجري بمشيئة الله الكونية، ويقع وفقاً لإرادته، ولكن دعوى المشركين أنهم وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب تلك المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية، باطل ومردود لما يأتي:

إن مشيئة الله غيب لا يعلمه أحد قبل أن يقع: فمن أين لهؤلاء المشركين أن يعلموها ويحيلون عليها شركهم وضلالهم، كما أن علم الإنسان محدود، ومن ثم لا أحد يستطيع أن يعلم ما قدره الله في المستقبل من خير أو شر إلا بعد وقوع أحدها له أو عليه، أما قبل ذلك فلا علم لأحد بما سيحصل ” وَمَا تَدْرِي  نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَاتَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان : 34) . فلو كان عند المشركين من حجة مقنعة بأن الله راضٍ بذلك فليظهروها، وإلا فإن دعواهم معرفة الغيب وكشف أسراره كذب على الله، ودعوى باطلة لا برهان لهم عليها.

إن الله أذاق الكافرين السابقين ألوان العذاب وأصناف العقاب جزاء على كفرهم: ولو لم يكونوا مختارين لما ارتكبوه من جرائم وآثام وكفر وشرك لما عذبهم الله لأن الله عدل لا يظلم أحد ” وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ”  (فصلت : 46) . وقال تعالى: “فَكُلًّا  أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ  خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (العنكبوت : 40) .

إن الله خلق البشر وفطرهم على الاستعداد للخير والشر والهدى والضلال، ومنحهم العقل لترجيح واحد من هذه على الأخرى: بيَّن الله لهم الآيات الكونية الهادية إلى الحق والخير، وأرسل الرسل وأنزل الكتب والشرائع كموازين ثابتة تعين الإنسان في اختياره، ومن ثم فلا حجة للإنسان بأن وقوعه في الضلال وإنحرافه عن الحق لم يكن باختياره وإرادته، أو أنَّ قدر الله هو الذي أضله ، قال تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس : 7 ـ 8) . وقال تعالى: ” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” (الإنسان : 3) ، ويقول سبحانه: ” وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” (البلد : 10)، فكل إنسان إذن مسؤول محاسب على عمله من خير وشر.

إنّ سلف هذه الأمة قد فهموا القدر على حقيقته، ومن ثم ردوا ما تعلل به أصحاب الأهواء والشهوات : يروى أن أحد اللصوص سرق في عهد عمر رضي الله عنه فأحضر بين يديه فسأله عمر قائلاً: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك. فقال عمر رضي الله عنه: اضربوه ثلاثين سوطاً ثم اقطعوا يده. فقيل له: ولم؟ فقال: يقطع لسرقته ويضرب لكذبه على الله، ويقول الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى، بما يكون من اكتسابات العبد، وصدورها عن تقدير منه، وخلقه لها خيرها وشرها.

إن هذا القول “الاحتجاج بالقدر” يلزم منه أن يستوي أولياء الله وأعداء الله: حيث لا يتميز الأبرار من الفجار، ولا أهل الجنة من أهل النار، فإن هؤلاء جميعاً قد كتب مقاديرهم، قبل أن يخلقهم، وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح، وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان.

قال تعالى:” أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ” (القلم: 35، 36) . وقال تعالى:” أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا  الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ” (ص: 28) . وقال تعالى:” لَايَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ” (الحشر: 20) .

ولو كان الاحتجاج بالقدر، مقبولاً لقبل إبليس وغيره من العصاة ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو كان القدر حجة لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد على ذي جريمة، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف ولا نُهي عن المنكر، وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده بصريح المعقول المطابق لما جاء به الرسول.

وأخيراً فإن الاحتجاج بالقدر يكذب واقع دعواه، إذا أنه لا يعلل بالقدر كل أحواله، وإلا لو كان صادقاً في زعمه لرضي بكل ما يقدره الله عليه من فقر وذل وجوع وذهاب مال، والواقع يشهد بعكس ذلك ويؤكد سعيه بكل الوسائل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الجوع.. الخ.

ولو كان المحتج بالقدر صادقاً في احتجاجه للزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن لا يذموا أحداً ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحد فعله، وفعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل… وأنهم كذابون مفترون في قولهم: إنَّ القدر حجة للعبد.


مراجع البحث:

    د. علي محمد محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص (91: 94).

    – ابن تيمية، مجموع الفتاوى، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد – مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، السعودية، 1425ه – 2004م، (8/ 263 – 264 –  265).

    – مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م، (1/ 154 ـ 155).

    – د. أحمد محمد جلي، العقيدة الإسلامية، دار الكتاب الجامعي، العين، 2010م، ص. ص 210 – 385.

    – يوسف القرضاوي الإيمان بالقدر، مكتبة وهبة ، القاهرة، ط1، 1421 – 2000، ص 63.