أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحم البشريَّة ويكرم الإنسانيَّة، فحان وقت الخلاص بمبعث الحبيب صلى الله عليه وسلم  . وقبل أن نشرع في بيان ميلاده الكريم، ونشأته العزيزة، ورعاية الله – عزَّ وجلَّ – له قبل نزول الوحي عليه، وسيرته العطرة قبل البعثة، نريد أن نتحدَّث عن الآيات العظيمة، والأحداث الجليلة؛ الَّتي سبقت ميلاده صلى الله عليه وسلم ، فقد سبق مولده الكريم أمورٌ عظيمةٌ دلَّت على اقتراب تباشير الصَّباح.

إنَّ من سنن الله في الكون: أنَّ الانفراج يكون بعد الشِّدَّة، والضِّياء يكون بعد الظَّلام، واليُسر بعد العُسر.

ومن أهمِّ هذه الأحداث: قصة حفر عبد المطَّلب جدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لزمزم

ذكر الشيخ إبراهيم العلي في كتابه القيِّم (صحيح السيرة النَّبويَّة)، روايةً صحيحةً في قصَّة حفر عبد المطَّلب لزمزم من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: «قال عبد المطَّلب: إنِّي لنائمٌ في الحِجْر، إذْ أتاني آتٍ، فقال لي: احفر طَيْبة. قلت: وما طَيْبة؟ قال: ثمَّ ذهب عني.

قال: فلـمَّا كان الغد؛ رجعت إلى مَضْجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر بَـرَّة، قال: قلت: وما بَـرَّة؟ قال: ثمَّ ذهب عنِّي.

فلـمَّا كان الغدُ؛ رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثمَّ ذهب. فلـمَّا كان الغد؛ رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تَنْزِفُ أبداً، ولا تُذَمُّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفَرْث والدَّم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النَّمل.

قال ابن إسحاق: فلـمَّا بُيِّن له شأنُها، ودُلَّ على موضعها، وعَرَف أنَّه قد صُدِق؛ غدا بمِعْوَلِهِ ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذٍ ولدٌ غيره، فحفر فيها، فلـمَّا بدا لعبد المطلب الطَّيُّ؛ كبَّر، فعرفت قريش: أنَّه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب! إنَّها بئر أبينا إسماعيل، وإنَّ لنا فيها حقًّا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعلٍ، إنَّ هذا الأمر قد خُصِصْتُ به دونكم، وأُعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنَّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعدٍ بن هُذَيم. قال: نعم، وكانت بأطراف الشَّام.

فركب عبد المطَّلب ومعه نفرٌ من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كلِّ قبيلةٍ من قريش نفرٌ، فخرجوا؛ والأرض إذ ذاك مفاوز؛ حتَّى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب، وأصحابه، فعطشوا حتَّى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا مَنْ كانوا معهم، فأبوا عليهم، وقالوا: إنَّا بمفازة وإنَّا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبد المطَّلب: إنِّي أرى أن يحفر كلُّ رجلٍ منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوَّة، فكلَّما مات رجلٌ دفعه أصحابه في حفرته، ثم وَارَوْه؛ حتَّى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فَضَيْعةُ رجلٍ واحدٍ أيسر من ضيعة ركبٍ جميعـه. فقالوا: نِعْمَ ما أمرت به.

فحفر كلُّ رجلٍ لنفسه حفرةً، ثمَّ قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثمَّ إنَّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إنَّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لَعَجْزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتَحلوا. فارتحلوا؛ حتَّى إذا بعث عبد المطَّلب راحلته انفجرت من تحت خفِّها عين ماءٍ عذبٍ، فكبَّر عبد المطلب، وكبَّر أصحابه، ثمَّ نزل، فشرب، وشرب أصحابه، واستسقوا حتَّى ملؤوا أسقيتهم، ثمَّ دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال – فقال: هَلُمُّوا إلى الماء ؛ فقد سقانا الله ، فجاؤوا ، فشربوا ، واستقوا كلُّهم، ثمَّ قالوا: قد – والله – قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، إنَّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الَّذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع، ورجعوا معه، ولم يصِلوا إلى الكاهنة، وخَلُّوا بينه وبين زمزم».

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن عليِّ بن أبي طالبٍ في زمزم [البيهقي في الدلائل (1/93 – 94) وابن هشام (1/151 – 153)] وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرةٌ، فمنها: ما رواه مسلمٌ في صحيحه في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إنَّها مباركةٌ، إنَّها طعامُ طُعْمٍ» [مسلم (2473)] .

وروى الدَّارقطنيُّ [(2713)] والحاكم [(1/473)] وصحَّحه عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  : «ماء زمزم لما شُرِبَ له: إنْ شربته لتستشفي، شفاك الله! وإن شربته لشبعك، أشبعك الله! وإن شربته لقطع ظمئك، قطعه الله! وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل» قال الشَّيخ محمَّد أبو شهبة – رحمه الله! – : ومهما يكن من شيءٍ فقـد صحَّح الحافظ الدِّمياطيُّ – وهو من الحفَّاظ المتأخرين المتقنين – حديث: «ماء زمزم لما شُرِبَ له» وأقرَّه الحافظ العراقيُّ.

قصَّة أصحاب الفيل

هذه الحادثة ثابتةٌ بالقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة، وأتت تفاصيلها في كتب السِّير والتَّاريخ، وذكرها المفسِّرون في كتبهم: قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل] . أمَّا إشارات الرَّسول صلى الله عليه وسلم  إلى الحادث؛ فمنها:

أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم  لـمَّا خرج زمن الحديبية، سار حتى إذا كان بالثَّنيَّة الَّتي يهبط عليهم منها، بركت بها راحلته ؛ فقال الناس: حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء! فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  : «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل» [البخاري (2731) وأحمد (4/323)] .

وجاء في السِّيرة النَّبويَّة لأبي حاتم ما يلي: «كان من شأن الفيل: أنَّ ملكاً كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة، يقال له: أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء، فسمَّاها القُلَّيْس، وزعم: أنَّه يصرف إليها حَجَّ العرب، وحَلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملكٌ من ملوك حِمير فيمن أطاعه من قومه يُقال له ذو نفر، فقاتله؛ فهزمه أبرهة، وأخذه، فلـمَّا أتى به؛ قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني؛ فإن استبقائي خيرٌ لك من قتلي، فاستبقاه، وأوثقه، ثمَّ خرج سائراً يريد الكعبة، حتَّى إذا دنا من بلاد خَثْعَم؛ خرج إليه النُّـفَيْل بن حبيب الخثعميُّ ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه، فهزمهم، وأخذ النُّـفَيْل، فقال النُّفيل: أيها الملك! إنِّي عالم بأرض العرب، فلا تقتلني، وهاتان يداي على قومي بالسَّمع، والطَّاعة، فاستبقاه، وخرج معه يَدلُّه، حتَّى إذا بلغ الطَّائف خرج إليه مسعود بن مُعَتِّب في رجال ثقيف، فقال: أيُّها الملك! نحن عبيدٌ لك، ليس لك عندنا خلافٌ، وليس بيننا وبينك الَّذي تريد – يعنون الَّلات – إنَّما تريد البيت الذي بمكَّة، نحن نبعث معك من يدلُّك عليه.

فبعثوا معه مولى لهم، يُقال له: أبو رِغال، فخرج معهم حتَّى إذا كان بالمُغَمَّسِ مات أبو رِغال، وهو الذي رُجِمَ قبره، وبعث أبرهة من المُغَمَّسِ رجلاً، يقال له: الأسود بن مقصود على مقدِّمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير بالأرك، ثمَّ بعث أبرهة حُنَاطة الحميريَّ إلى أهل مكَّة، فقال: سل عن شريفها، ثمَّ أبلغه: أنِّي لم آتِ لقتال، إنَّما جئت لأهدم هذا البيت.

فانطلق حُنَاطة حتَّى دخل مكَّة، فلقي عبد المطلب بن هاشم، فقال: إنَّ الملك أرسلني إليك؛ ليخبرك: أنَّه لم يأتِ لقتالٍ، إلا أن تقاتلوه، إنَّما جاء لهدم هذا البيت، ثمَّ الانصراف عنكم. فقال عبد المطَّلب: ما عندنا له قتالٌ، سنخلِّي بينه وبين البيت، فإن خلَّى اللهُ بينه وبينه؛ فو الله ما لنا به قوَّةٌ. قال: فانطلق معي إليه. قال: فخرج معه؛ حتَّى قدم المعسكر، وكان «ذو نفر» صديقاً لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر! هل عندكم من غناءٍ فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجلٍ أسيرٍ لا يأمن من أن يقتل بُكرةً، أو عشيَّةً، ولكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فامره أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خيرٍ، ويُعظم خطرك، ومنزلتك عنده. قال: فأرسل إلى أنيس، فأتاه، فقال: إنَّ هذا سيِّد قريش، صاحب عير مكَّة؛ الذي يُطعم النَّاس في السَّهل، والوحوش في الجبال، وقد أصاب له الملك مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه؛ فانفعه؛ فإنَّه صديقٌ لي.

فدخل أنيس على أبرهة، فقال: أيُّها الملك! هذا سيِّد قريشٍ، وصاحب عِيْرِ مكَّة؛ الذي يُطعم النَّاس في السَّهل، والوحوش في الجبال، يستأذن عليك، وإنَّه أحبَّ أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصبٍ لك، ولا مخالفٍ عليك. فأذن له، وكان عبد المطَّلب رجلاً عظيماً، جسيماً، وسيماً، فلـمَّا رآه أبرهة، عظَّمه، وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط، فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك! إنَّك قد أصبت لي مالاً عظيماً، فاردده عليَّ. فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتُك، ولقد زهدت فيك. قال: ولِمَ؟ قال: جئتُ إلى بيتٍ هو دينُك ودينُ آبائك، وعصمتُكم، ومنعتُكم؛ لأهدمَه، فلم تُكلِّمْني فيه، وتكلِّمُني في مئتي بعيرٍ لك! قال: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت ربٌّ سيمنعه. قال: ما كان ليمنعه منِّي. قال: فأنت وذاك! قال: فأمر بإبله، فرُدَّت عليه، ثمَّ خرج عبد المطَّلب، وأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشِّعاب.

وأصبح أبرهة بالمُغَمَّس قد تهيَّأ للدُّخول، وعبَّأ جيشه، وقرَّب فيله، وتحمَّل عليه ما أراد أن يحمل، وهو قائم، فلـمَّا حرَّكه: وقف، وكاد أن يرزم إلى الأرض، فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه، فأبى، فأدخلوا محاجنه تحت أقرانه، ومرافقه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن، فهرول، فصرفوه إلى الحرم، فوقف، ولحق الفيل بجبلٍ من تلك الجبال، فأرسل الله الطَّير من البحر كالبلسان، مع كلِّ طيرٍ ثلاثة أحجارٍ: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، وتحمل أمثال الحِمَّصِ والعدس من الحجارة، فإذا غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تُصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك، وليس كل القوم أصيب، فذلك قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل] .

وبعث الله على أبرهة داءً في جسده، ورجعوا سراعاً يتساقطون في كلِّ بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلَّما سقطت أُنملة؛ أتبعتها مِدَّة من قيحٍ، ودمٍ، فانتهى إلى اليمن، وهـو مثل فرخ الطَّير فيمن بقـي من أصحابه، ثمَّ مات».

وذكر ابن إسحاق – رحمه الله! – في سيرته، كما نقله ابن هشامٍ عنه في السِّير: أنَّ عبد المطلب أخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفرٌ من قريش، يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو اخذٌ بحلقة باب الكعبة:

لاهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْــــــــــــ     ـــــــنعُ رَحْلَه فَامْنَعْ حلالَكْ

لا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ                  وَمِحَالُهُمْ غَدْواً مِحَالَكْ

إنْ كُنْتَ تَارِكُهمْ وقِـــــ         ــــبْــلتَنا  فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ

ثمَّ أرسل عبد المطَّلب حَلْقَة باب الكعبة، وانطلق هو، ومن معه من قريشٍ إلى شَعَفِ الجبال، فتحرَّزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعلٌ بمكَّة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ما حدث من هلاكٍ لأبرهة، وجيشه.

دروسٌ وعبرٌ وفوائدُ من حادثة الفيل

1 – بيان شرف الكعبة أوَّل بيتٍ وُضع للنَّاس، وكيف أنَّ مشركي العرب كانوا يعظِّمونه، ويقدِّسونه، ولا يقدِّمون عليه شيئاً. وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم، وإسماعيل، عليهما الصَّلاة والسَّلام.

2 – حسد النَّصارى، وحقدهم على مكَّة، وعلى العرب الَّذين يعظِّمون هذا البيت، ولذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة القُلَّيْس، وعلى الرَّغم من استعماله أساليب التَّرغيب، والتَّرهيب إلا أنَّ العرب امتنعوا، ووصل الأمر إلى مداه بأن أحدث في كنيسة القُلَّيْسِ أحدُ الأعراب، قال الرَّازي – رحمه الله تعالى! – في قوله تعالى: : اعلم أنَّ الكيد هو إرادة مضرَّةٍ بالغير على الخفية. (إن قيل): لِمَ سمَّاه ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، وأمره كان ظاهراً؟ فإنَّه كان يُصرِّح أن يهدم البيت. (قلنا): نعم؛ لكن الذي كان في قلبه شرّاً ممَّا أظهر؛ لأنَّه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشَّرف الحاصل لهم بسبب الكعبة عنهم، وعن بلدهم إلى نفسه، وإلى بلدته.

3 – التَّضحية في سبيل المقدَّسات:

قام ملكٌ من ملوك حِميرَ في وجه جيش أبرهة، ووقع الملك أسيراً، وقام النُّفَيْلُ ابن حبيبٍ الخثعميُّ ومن اجتمع معه من قبائل اليمن، فقاتلوا أبرهة، إلا أنَّهم انهزموا أمام الجيش الْعَرَمْرَم، وبذلوا دماءهم دفاعاً عن مقدَّساتهم. إنَّ الدِّفاع عن المقدَّسات والتَّضحية في سبيلها، شيءٌ غريزيٌّ في فطرة الإنسان.

4 – خَوَنة الأمَّة مخذولون:

فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة، وصاروا عيوناً له، وجواسيس، وأرشدوه إلى بيت الله العتيق؛ ليهدمه لعنوا في الدُّنيا والآخرة، لعنهم النَّاس، ولعنهم الله – سبحانه وتعالى – وأصبح قبر أبي رِغال رمزاً للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرَّجل مبغوضاً في قلوب النَّاس، وكلَّما مرَّ أحد على قبره؛ رجمه.

5 – حقيقة المعركة بين الله وأعدائه:

في قول عبد المطلب زعيم مكَّة: «سنخلِّي بينه وبين البيت؛ فإن خلَّى الله بينه وبينه؛ فو الله ما لنا به قوَّةٌ»، وهذا تقريرٌ دقيقٌ لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه، فمهما كانت قوَّة العدوِّ وحشوده؛ فإنَّها لا تستطيع الوقوف لحظةً واحدةً أمام قدرة الله وبطشه، ونِقْمته؛ فهو سبحانه واهب الحياة، وسالبُها في أيِّ وقتٍ شاء.

قال القاسميُّ – رحمه الله! -: قال القاشانيُّ – رحمه الله ! – قصَّة أصحاب الفيل مشهورةٌ، وواقعتهم قريبة من عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثرٌ من سخطه على مَنِ اجترأ عليه بهتك حُرَمِهِ.

6 – تعظيم النَّاس للبيت، وأهله:

ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام، الَّذي تكفَّل بحفظه، وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين، وأعظمت العرب قريشاً، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم العدوَّ، وكان ذلك آيةً من الله تعالى، ومقدِّمةً لبعثة نبيٍّ يبعث من مكَّة، ويطهِّر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعةٍ، وشأن.

7 – قصَّة الفيل من دلائل النُّبوَّة:

قال بعض العلماء: إنَّ حادثة الفيل من شواهد النُّبوَّة، ودلالاتها، ومن هؤلاء: الماورديُّ – رحمه الله! – حيث يقول: آيات الملك باهرةٌ، وشواهد النُّبوَّة ظاهرةٌ، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذبٌ بصدقٍ، ولا منتحلٌ بحقٍّ، وبحسب قوَّتها، وانتشارها تكون بشائرها، وإنذارها، ولـمَّا دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم  تعاطرت آيات نبوَّته، وظهرت آيات بركتـه، فكان من أعظمها شأناً، وأشهرهـا عياناً، وبياناً أصحاب الفيل… إلى أن قال: وآية الرَّسول صلى الله عليه وسلم  في قصَّة الفيل: أنَّه كان في زمانه حَمْلاً في بطن أمِّـه بمكَّة؛ لأنَّـه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل، وبعد موت أبيه، في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، فكانت آيةً في ذلك من وَجْهَيْن:

أحدهما: أنَّهم لو ظفروا؛ لسبوا، واسترقوا، فأهلكهم الله – تعالى – لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم  أن يجري عليه السَّبيُ حَمْلاً، ووليداً.

والثَّاني: أنَّه لم يكن لقريش من التألُّه ما يستحقُّون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنَّهم كانوا بين عابد صنمٍ، أو متديِّن وثنٍ، أو قائلٍ بالزَّندقة، أو مانعٍ من الرَّجعة، ولكن لـمَّا أراد الله تعالى من ظهور الإسلام، تأسيساً للنُّبوَّة، وتعظيماً للكعبة. ولـمَّا انتشر في العرب ما صنع الله تعالى في جيش الفيل، تهيَّبوا الحرم، وأعظموه، وزادت حرمته في النُّفوس، ودانت لقريش بالطَّاعة، وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم كيدَ عدوِّهم، فزادوهم تشريفاً، وتعظيماً، وقامت قريش لهم بالوفادة، والسِّدانة، والسِّقاية (والوفادة مالٌ تخرجه قريش في كلِّ عامٍ من أموالهم، يصنعون به طعاماً للنَّاس أيام منى)، فصاروا أئمَّةً دَيَّانين، وقادةً متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين.

وقال ابن تيميَّة – رحمه الله! -: «وكان ذلك عام مولد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النَّصارى خيرٌ منهم، فعُلِمَ بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذٍ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ الَّذي ولد في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأيُّ ذلك كان؛ فهو من دلائل نبوَّته».

8 – حفظ الله للبيت العتيق:

إنَّ الله لم يقدِّر لأهل الكتاب(أبرهة وجنوده)، أن يدمِّروا البيت الحرام، أو يسيطـروا على الأرض المقدَّسـة، حتَّى والشِّرك يُدنِّسـه، والمشركون هم سدنته؛ ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلِّطين، مصوناً من كيد الكائدين، وليحفظ لهذه الأرض حرِّيتهـا، حتَّى تنبت فيها العقيدة الجديدة حُرَّةً طليقـةً، لا يهيمن عليها سلطانٌ، ولا يطغى فيها طاغيةٌ، ولا يهيمن على هذا الدِّين الذي جاء ليهيمن على الأديان، وعلى العباد، ويقود البشريَّة، ولا يقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته، ولدينه، قبل أن يعلم أحدٌ: أنَّ نبيَّ هذا الدِّين قد ولد في هذا العام.

9 – جَعْلُ الحادثة تاريخاً للعرب:

استعظم العرب ما حدث لأصحاب الفيل، فأَرَّخُوا به، وقالوا: وقع هذا عامَ الفيل، ووُلد فلانٌ عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل بكذا من السِّنين، وعام الفيل صادف عام 570م.