نظر غالبية الاستشرق[1] إلى الإسلام بصورة قاصرة وخاصة إلى نبيه الكريم محمد -ﷺ- إذ اعتمد الاستشراق على معرفة مشوشة، ومناهج منقوصة، ونوايا عدائية، فجاءت الكتابات تغلق الباب في وجه بناء معرفة صحيحة عن الإسلام، وتشكل حائطا منيعا أمام هداية الكثيرين. وقد تراوحت المدارس الاستشراقية تجاه الإسلام بين الدوافع العلمية والدينية والسياسة والاستعمارية، وتفاعلها جميعا أنتج صورة مشوهة عن الإسلام وغير منصفة لشخص الرسول الكريم-ﷺ-[2] وهو ما عمق الصراع بين الغرب والإسلام لقرون طويلة، فالمعرفة المشوهة تنتج أزمات متكررة. وفي إطار مناقشة ما يكتبه الاستشراق الحديث، يأتي كتاب “النبي محمد في مؤلفات مونتجمري وات[3] عن السيرة النبوية: دراسة تحليلة مقارنة” تأليف ماهر جواد كاظم الشمري، والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ببيروت عام( 1440هـ=2019م) في (438) صفحة، وهو الكتاب الثامن ضمن سلسلة “دراسات استشراقية”.
يناقش كتاب “الشمري” ثلاثة كتب أصدرها ذلك المستشرق البريطاني عن السيرة النبوية، هي “محمد في مكة” و”محمد في المدينة” و”محمد النبي ورجل الدولة”، وهي مؤلفات ضخمة وشاملة، وهي من أكثر الكتب الاستشراقية شمولا عن السيرة النبوية، كما أنها تحوي كثيرا من التضليل المعرفي.
الكتاب يتكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، استعرضت لمحة تاريخية عن الاستشراق؛ خاصة الاستشراق البريطاني[4]، واستعراضا لحياة مونتجمري وات، ثم تحليلا ونقدا لآراءه في السيرة النبوية.
يلفت المؤلف الانتباه إلى مسألة مهمة وهي أن تسرب الإسرائيليات إلى التراث الإسلامي، وتباطؤ الفكر الإسلامي عن نقدها، جعل تلك المرويات الواهية تتسرب إلى أذهان المستشرقين وكتاباتهم، ومن ثم تُختزن كمعرفة مشوهة في العقل الغربي لتمنع بناء معرفة صحيحة عن الإسلام، لذا فربما يكون من أولويات نقد الاستشرق هو تتبع تلك الإسرائيليات التي بنى عليها الاستشرق أفكاره ومقولاته، وإزاحتها من التراث الإسلامي.
منهج “وات” في السيرة النبوية
تميز منهج “وات” في كتابة السيرة النبوية بالجرأة، لكنه كان غير حيادي في كثير من الأحيان، فحاول أن يطعن على الإسلام ونبيه ﷺ، وكان يرى أن الاشتراق في العصر الحديث تحررمن عقدة النقص تجاه الإسلام في ظل السيادة والقوة الغربية، زاعما أن تلك الحالة التي تغيرت فيها قوة الغرب جعلت الاستشراق يبتعد عن تشوه حقيقة الإسلام وصورته ، إلا أن كتاباته تغذت على أفكار المستشرقين المتعصبين، ويمكن تلخيص منهجه في السيرة في النقاط التالية:
-القفز إلى نتيجة مفادها أن النبي-ﷺ- تأثر بالبيئة حوله، وبأفكار ورقة بن نوفل، والمسيحيين واليهود، ليخلص “وات” أن رسالة الإسلام جاء بها محمد -ﷺ- من تلقاء نفسه، كما صور بنو هاشم بالعوز والفقر والضعف الاجتماعي، وذلك على غير ما تذكره مصادر السيرة والتاريخ العربي، كما قلل من شخصية “عبد المطلب” جد النبي -ﷺ-، وعموما كان “وات” ينتقص أسرة النبي -ﷺ-، ويشكك في علو مكانتها وزعامتها بين العرب وثرائها، ولا شك أن في ذلك تقليل من هيبة النبي -ﷺ-.
الغريب أن “وات” يفسر اعتكاف النبي -ﷺ- في غار حراء، قبل البعثة، بأنه هروب للنبي من الحر في مكة، أي فسر تعبد النبي قبل البعثة تفسيرا مناخيا لم تتحدث عنه أية رواية تاريخية إسلامية، بل فسر هذا الاعتكاف بأنه كان تعبيرا عن فقر النبي، الذي لم يكن يستطيع أن يقضي الصيف في الطائف، التي كان يقضي فيها أثرياء قريش صيفهم، والغريب في مجافاة ما يقوله للواقع هو أن غار حراء كان صغيرا لا يتعدى عدة أذرع، ولا يصلح أن يكون مكانا للهروب من قيظ الصيف، فهو لا يستوعب إلا شخصا واحدا، وكان الغار يبعد عن المسجد الحرام بأربعة كيلو مترات، ويرتفع (600) مترا، ويستغرق صعوده قرابة الساعتين، ومن ثم فهو رحلة غير مترفة، ولكنها رحلة غايتها التأمل والتفكر.
– لم يصف “وات” النبي -ﷺ- في كتاباته بالنبي أو الرسول، بل اعتبره مصلحا اجتماعيا ورجلا سياسيا، أصابته الكهانة، أي أن “وات” أنكر النبوة بالكامل، لذا كان يطرح تسؤلات غريبة عن الأسباب الكامنة وراء عدم اعتناق النبي-ﷺ- للمسيحية، بل زعم أن قبول أهل المدينة المنورة لدعوته لم يكن إلا ظنا من أهلها بأنه هو المسيح المنتظر، كذلك اعتبر أن المؤاخاة بعد الهجرة كانت تطويرا لنظام التحالفات في الجاهلية، بل إنه اعتبر أن خُلق النبي -ﷺ- الرفيع لم يكن إلا شعورا بالكآبة!
-تأثر “وات” بالرؤى العلمانية الرافضة للغيب والوحي والمعجزات، فهو ينكر الإسراء والمعراج، كما يعتمد على المنهج المادي في تفسير ظهور الإسلام وأحداثه الكبرى، فيعزو ظهور الدعوة الإسلامية والغزوات إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي سادت المجتمع العربي آنذاك، كما ينكر حادثة شق صدر النبي -ﷺ- أثناء طفولته، ويفسر زواج النبي -ﷺ- من السيدة خديجة تفسيرا ماديا، معتبرا إياها إحدى الصفقات، أما ما يتعلق بالوحي الذي بدأ نزوله على النبي -ﷺ- وهو في الأربعين من عمره، فيزعم “وات” أن النبي تعرض لمس شيطاني جعله يظن أنه رأى الله تعالى، لذا يشكك في الوحي منذ لحظته الأولى في غار حراء.
-يقرأ “وات” السيرة النبوية بعين غربية معاصرة، فمثلا يطبق نظرية تطور الأديان على الإسلام، فيتحدث عن توحيد غامض في الإسلام ليصل إلى مراحل من التشدد والتعصب، فتراه يلغي كثيرا من المرويات الإسلامية أو يضعفها أو يقصيها من كتاباته، وفي المقابل يعتمد على الضعيف والشاذ والغريب.
-التأثر باليهودية والنصرانية عند قراءة الإسلام، فلا يعتبر “وات” الإسلام خاتم الرسالات، ولا محمد -ﷺ- خاتم الأنبياء، فيصر على فضل ودور للمسيحية في نشأة الإسلام، من خلال بداياته الأولى خاصة “بحيرا الراهب”، لكن الغريب فيما يقوله “وات” أن النبي-ﷺ- رآه بحيرا الراهب في الشام وكان عمر النبي (12) عاما، وكيف لصبي أن يصوغ من هذا اللقاء العابر دينا كاملا وكتابا محكما بعد أكثر من (28) عاما من اللقاء!
وفيما يتعلق بأمُية النبي -ﷺ- يزعم “وات” أن أمية النبي -ﷺ- كانت إدعاء، ويزعم أن النبي تلقى بعض معارفه شفاهة من بعض رهبان النصارى وأحبار اليهود في الشام.
-كان منهج “وات” انتقائي في اختيار الأحداث التي توافق رؤيته وتنسجم مع أفكاره وميوله، وفي المقابل يتغافل عن الأحداث التي لا تتوافق معه، فمثلا أهمل كثير من حضور النبي -ﷺ- في المجتمع المكي قبل الإسلام مثل مشاركته في “حرب الفجار” و”حادثة بناء الكعبة” و”حلف الفضول”.
-تشكيكه في شخص النبي -ﷺ- ، فيرى “وات” أن النبي لم يعرف حتى أواخر الفترة المكية الأبعاد الحقيقية لدعوته، فهو لم يكن يعرف عالمية دعوته، وكان يظن أن دعوته لقريش فقط، ويزعم “وات” أن الإيذاء والتعذيب الذي تعرض له بعض الذين اسلموا في مكة كان إيذاء لفظيا فقط، كما أعتبر أن الثلاث سنوات من الدعوة السرية في بداية البعثة لم تكن عصرا للنبوة، بل أنكر ما نزل من القرآن في تلك المرحلة.
من أين استمد “وات” معلوماته عن السيرة؟
كان القرآن أهم موارده في استقاء معلوماته عن السيرة، لكن لم يكن أمينا في استخدام القرآن الكريم والأخذ منه، فكان انتقائيا في استشهاده بالقرآن، واستخدم كتب السنة والصحاح والسيرة لكنه شكك في بعض مروياتها، وفيما يتعلق بالمراجع الحديثه فهو لم يلجأ إليها إلا قليلا، وإن لم يذكر اسمها، ورجع إلى دراسات غلاة المستشرقين، ووصل الأمر للقول بأن مخالفة المستشرق “جولد تسيهر” ليست بالأمر السهل.
وأخيرا عندما تقرأ سيرة “مونتجمري وات” الذي قضى أكثر من سبعين عاما في دراسة الإسلام والكتابة عنها، حتى إن أي باحث غربي يبحث في الإسلام لابد أن يستعين بمؤلفات “وات”، ربما تطرح على نفسك سؤالا مهما: هل كان من الواجب على المسلمين الذي اهتموا بالترجمة من اللغات الأخرى إبان عصر المأمون في “بيت الحكمة” في القرن الثالث الهجري أن يبذلوا جهدا لترجمة معاني القرآن الكريم وسيرة نبي الإسلام إلى اللغات الرئيسية في المعمورة آنذاك، فيضعوا بذلك لبنة في بناء معرفة صحيحة عن الإسلام؟! كذلك ألا يُعد ترك سيرة نبي الإسلام بلا ترجمة وافية وواعية للغات الحية في العالم تقصيرا في التبليغ لرسالته؟!
[1] الاستشراق هو دراسة الغربيين لتاريخ الشرق وأممه ولغاته وعلومه وعاداته ومعتقداته وأساطيره، وكانت بداية ظهور المصطلح في بريطانيا عام 1779، وأدرجت كلمة الاستشراق orientalisme في القاموس الفرنسي عام 1838م، وكان هدفه إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق.
[2] ومن أهم المستشرقين البريطانيين الذين كتبوا في السيرة النبوية:
-وليم بدويل الذي ألف كتابا طبع عام 1697م بعنوان “حياة محمد”.
-المسشرق الاسكتلندي “توماس كارليل” (المتوفى عام 1881) والذي كتبا مقالا مهما عن النبي -ﷺ- بعنوان “النبي البطل مثل محمد الإسلام” دافع فيه عن السيرة النبوية.
-وليم موير الذي أصدر موسعة عن السيرة النبوية، في الفترة (1858-1861 م) في لندن وحازت شهرة كبيرة، وتعددت طباعاتها .
-عالم الآثار البريطاني “كودفراي هكنز” (1772-1833م) والذي أصدر في لندن كتابا بعنوان “الإعتذار من حياة ومزايا نبي العربية المُحتفى به محمد” صدر عام 1829.
-ويعد كتاب “الاعتذار لمحمد والقرآن” للكاتب “جون ديفن بورت” الصادر في لندن 1869م من أبرز الدراسات المنصفة للسيرة النبوية، حيث قال الكاتب في مقدمته:” إن الغاية من عملنا الحالي، أن نسعى بكل تواضع لأن نحرر تاريخ محمد من الاتهامات الزائفة والافتراضات الضيقة الأفق، وتبرئة ساحته مما نسب إليه لكونه أحد أعظم المحسنين إلى البشرية”.
[3] مونتجمري وات: مستشرق بريطاني من أصل اسكتلندي ولد في 14 مارس 1909، كان والده قسيسا، درس في عدة جامعات أوروبية، ونال درجة الاستاذية عام 1964، فكان رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية بجامعة أدنبره من عام 1947 حتى تقاعده 1979، وكان المحرر المشرف على الدراسات الإسلامية في الموسوعة البريطانية، احتل مكانة متميزة باعتباره قسيسا كأبيه، وتخصص في دراسة الإسلام، واهتم بدراسة السيرة النبوية، وكان متعصبا دينيا، توفي (24 أكتوبر 2006) عن عمر يناهز (97) عاما، من أهم كتبه:” محمد في مكة” و”محمد في المدينة” و”محمد النبي والسياسي” و”تأثير الإسلام على أوروبا خلال العصور الوسطى” و”القضاء والقدر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة” وهي أطروحته للدكتوراه، و”الجبر والاختيار في إلإٍسلام” و”عوامل انتشار الإسلام” و”العظمة التي كان اسمها الإسلام”، و”الإسلام واندماج المجتمع”.
[4] تعد مدرسة الاستشراق البريطاني من أقدم المدارس الاستشراقية، وظهرت أول دراسة بريطانية عن الشرق في نهاية القرن الأول الهجري على يد “ويلبلاد” Wilibold الذي دون رحلته إلى البلاد العربية في مطلع القرن الأول الهجري=السابع الميلادي.
وتطورت مدرسة الاستشرق البريطانية على يد المستشرق السير “توماس آدمز” الذي أسس كراسي لتدريس اللغة العربية في جامعة كامبرديج عام1632م، وفي جامعة أكسفورد عام 1636م، ولعل من أهم ما يميز حركة الاستشراق البريطانية هو ارتباطها بالاستعمار.