يتصور بعض المسلمين أن مقتضى وعد الله المسلمين أن ينصرهم على عدوهم أن يكون ذلك فور المواجهة بين الحق والباطل، وأن يكون ذلك في الجولة الأولى، وأن ينتصر المسلمون دائما في كل معاركهم ضد الباطل، بل وأن يكون النصر نصرا دنيويا، فلا يتعرض المسلمون للأسر ولا للقتل ولا للإصابة.

وأن يكون  القتل والأسر والإصابات والجراحات من نصيب المكذبين المعتدين  الظالمين وحدهم.

ويضيف هؤلاء : لماذا نرى الظالمين أطول أعمارا من المظلومين في كثير من حلقات التاريخ الإنساني؟

ولماذا نرى كثيرا من الظالمين يرفلون في ثياب النعمة والصحة، دون أن تتهددهم الأمراض، أو تتخطفهم يد الردى؟ لماذا لا نرى انتقام الله منهم؟

 

تحاول هذه المقالة الإجابة على هذه التساؤلات المحورية.

توقف سنة الإهلاك

سبق لنا في مقال سابق أن بينا أن سنة الله في إهلاك الأمم الظالمة بسبب ظلمهم قد توقفت، دل على ذلك قوله تعالى، { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 43] ويمكن مطالعة المقال من الرابط التالي :توقف سنة إهلاك الظالمين.

 

الجولة الأولى

والذي نريد التأكيد عليه هنا أنه حتى لو كانت سنة الاستئصال لم تتوقف، لما كان مقتضى ذلك أن يبيد الله تعالى الظالمين فور تكذيبهم وظلمهم واعتدائهم على المستضعفين، ولكنه يهملهم ويترفق بهم .

فليس في القرآن ولا في السنة ما يدل على معاجلة الله الظالمين بالإهلاك، بل في القرآن ما يؤكد  إمهال الله للمعتدين ، ومن ثم حدوث خسائر ومصائب في صفوف المسلمين المظلومين؛ لأن هذا مقتضى إمهال أعدائهم وهم معتدون.

من هذه الآيات :

قوله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45]

وقوله تعالى : {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].

وقال تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]

وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»([1]).

بل المتأمل في سنن الله الكونية يُدرك أنه قد لا يُعاقب الظالم المعتدي في الدنيا بالمرة، ولكن يؤخر عقابه إلى الآخرة، وهذا في حق الأفراد لا الأمم، يقول الشيخ رشيد رضا في بيان ذلك :

” عذاب الأمم في الدنيا مطرد، وأما عذاب الأفراد فقد يتخلف ويرجأ إلى الآخرة ؛  فالأمم والشعوب الباغية الظالمة لا بد أن يزول سلطانها وتدول دولتها.

والسكير والزناء لا يسلمان من الأمراض التي سببها السكر والزنا، والمقامر قلما يموت إلا فقيرا معدما إلخ.”([2])

 

إمهال رحمة وحجة

إن معاجلة الله المعتدين الظالمين بالإهلاك ينافي رحمته تعالى في الصبر على الظالم والمعتدي، وإعطائه الحجة تلو الحجة، والفرصة تلو الفرصة.

فمن الآيات الدالة على تأخير العقوبة وإمهال الظالم رحمة به؛ بغية توبته وأوبته، قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد:6].

وقوله تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]

يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية:

“والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة؛ لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك، وإعادة النظر، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا.([3])

ومن الآيات الدالة على تأخير العقوبة وإمهال الظالم قطعًا لعذره، وإلزاما له بالحجة، قوله تعالى :

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] أي أو لم نعمركم ونمهلكم وقتا طويلا كافيا للتذكر والأوبة والرجوع إلى الله، فما لكم تطلبون اليوم فرصة جديدة للرجوع!

فيمَ بقاء الدنيا؟

إن مباغتة المعتدي الظالم يتنافى مع الابتلاء، ففيم بقاء الدنيا إذا خلت من كل ظالم شرور في الجولة الأولى؟

ولتقريب هذا المعنى يمكن مشاهدة فيلم البداية، الذي سقطت فيه الطائرة بركابها في عرض الصحراء، فتفطن واحد منهم فقط لإمكان أن يتسود عليهم، فتكون الثروة والسلطة من حقه وحده، وأن يكون الباقون جميعا عبيدا عنده، إذا أرادوا أن يأكلوا من التمور التي تملأ المكان، فلا بد أن يدفعوا ثمن ذلك خدمته والسهر على راحته، حتى إنه منعهم هذه الخدمة، وقال لهم : لا أجد لكم عندي عملا، ومن ثم لن تحصلوا على شيء من التمر.

وهنا يجد بعض المتيقظين أن عليهم أن يوقظوا باقي إخوانهم ويقنعوهم بضرورة المقاومة من أجل الحياة، بل كان عليهم أن يقنعوهم بأن ما يحدث لهم ظلم من الأساس، وكلما قطعوا شوطا في ذلك، أفسده عليهم ذلك المتأمر الظالم، ويطول الفيلم حتى يفيق الجميع على ضرورة المقاومة، وأن  تكاتفهم في وجه رجل واحد أمر مقدور لهم.

والشاهد أنهم لو تكاتفوا جميعا ضده من أول الفيلم ومنعوه أن يسلبهم حريتهم وحقوقهم لانتهى الفيلم في دقائقه الأولى، ولما وجد مسوغ  لظهوره أصلا، وهكذا الدنيا، يمر الإنسان فيها بمجموعة من التجارب الابتلائية المتلاحقة، واحدة تلو الأخرى، وهذا يقتضي بقاء الشر ونوازعه لحدوث الابتلاء، وإلا لما كان هناك حاجة للدنيا بالأساس؛ فإنها وجدت للابتلاء.


([1])صحيح البخاري ، رقم (4686)

([2])تفسير المنار (9/ 379)

([3])التحرير والتنوير (15/ 357)