عالمٌ نحرير قلّ نظيره في تاريخ الإسلام، وجهبذ من جهابذة العلماء، عاش في زمن دولة السلاجقة وعاصر الحروب الصليبية، وكان له منهج إصلاحي متفرد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة ، وإصلاح الفكر، إنه حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي.
إن التعرف على حياة هذا العالم الجليل ومعرفة أسباب نبوغه وعلمه، هو استشفاف لنموذج فريد لرجل أنجبه الإسلام العظيم .فمن هو؟ وكيف نشأ وتعلم؟ وم أسباب نبوغه في علمه؟
اسمه ونسبه
الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين العابدين أبو حامد ابن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط. وقد نسبه البعض إلى غزالة ـ بتخفيف الزاي ـ وهي بلدته التي ولد فيها، وهي نسبة صحيحة من حيث اللغة، والبعض نسبه إلى الغزَّالي ـ بتشديد الزاي ـ نسبة إلى الغزَّال حرفة والده التي كانت يكتسب منها، وهي نسبة صحيحة أيضاً من حيث اللغة.
نشأته ومولده
ولد بـ (طوس) ، سنة خمسين وأربعمئة هجرية، وأما والده، فقد كان فقيراً صالحاً لا يأكل إلا من كسب يده، حيث كان يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، وكان يختلف في أوقات فراغه إلى مجالسة العلماء، ويطوف عليهم، ويتوفر على خدمتهم، ويجدُّ في الإحسان إليهم والتفقه بما يمكنه عليهم، وكان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع إلى الله أن يرزقه ابناً يجعله فقيهاً وواعظاً، فرزقه الله بولدين هما أبو حامد، وأخوه أحمد. غير أن الأقدار لم تمهله حتى يرى رجاءه قد تحققت ودعوته قد استجيبت، فقد توفي وما يزال أبو حامد صغيراً لم يبلغ سن الرشد . أما أم (أبي حامد) فقد عاشت حتى شهدت بزوغ شمس ابنها في سماء المجد، وتبوُّؤَه أكبر مركز علمي في ذلك العهد.
وكان والده قد أوصى به وبأخيه إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديّ هذين، فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه بهما، فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلا أن ذلك النَّزر اليسير الذي خلفه لهما أبوهما ما فتأى أن نفد، وتعذر على الصوفي القيام بقوتهما، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد لا مال لي فأواسيكما به، وأَصْلَحُ ما أرى لكما أن تلجأا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما، وعلوِّ درجتهما، وكان الغزالي يحكي هذا، ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.
اجتهاده في طلب العلم
قرأ في صباه طرفاً من الفقه ببلده طوس على أستاذه أحمد بن محمد الرازكاني، وكان أستاذه الأول بها (يوسف النساج) ، وبعد تناول الغزالي لهذا القدر اليسير من الفقه في بلدته، يشد الرحال إلى جرجان، حيث يلتقي بأستاذه أبي نصر الإسماعيلي، ويدون ما يسمعه منه كمرحلة أولى من التلقي والتعليم، ثم يرجع إلى طوس وفي أثناء رجوعه حدث له ما جعله يحفظ ما كتب، ويفهم ما علم، وفي هذا يقول: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي، ومضوا فتبعتهم، فالتفت إليَّ مقدَّمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، قلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ عليَّ تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدَّعي أنك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم؟! ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة. قال الغزالي: هذا مستَنْطق أنطقه الله ليرشد به أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين، حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.
ملازمته إمام الحرمين
قدم الغزالي نيسابور، وهي عاصمة السَّلجوقيين، ومدينة العلم بعد بغداد ولازم إمام الحرمين ـ وهو من عرفنا شخصيته وجلالته في العلم والتدريس ـ وجدَّ، واجتهد حتى برع في المذهب، والخلاف، والجدل، والأصول، وكانت العلوم السائدة في عصره، وأعجب إمام الحرمين بذكائه، وغوصه على المعاني الدقيقة، واتساع معلوماته، فكان يقول: الغزالي بحر مغدق. وفاق أقرانه وهم أربعمئة حتى أصبح معيداً لأستاذه ونائباً عنه، وقيل: إنه ألف المنخول، فراه أبو المعالي، فقال: دفنتني وأنا حيٌّ، فهلا صبرت الان، كتابك غطَّى على كتابي .
تعيينه مدرساً على نظامية بغداد
ولما مات إمام الحرمين عام (478 هـ) ، خرج الغزالي إلى المعسكر قاصداً الوزير نظام الملك، وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من سِنّه، وقد ظهر فضله وذاع صيته، وكان مجلس الوزير مجمع أهل العلم، وملاذهم، وكانت المجالس حتى الماتم لا تخلو من المناظرات الفقهية، والمطارحات الكلامية، فناظر الغزالي الأئمة العلماء في مجلس نظام الملك، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل، وولاّه تدريس مدرسته النظامية ببغداد، وكان ذلك غاية ما يطمح إليه العلماء، ويتنافسون فيه، فقدم بغداد في سنة أربع وثمانين وأربعمئة، ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وقلَّما تقلَّد هذا المنصب الرفيع عالم وهو في هذه السن، درَّس الغزالي بالنظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونُكتَهُ الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبُّوه.
قال معاصره عبد الغافر الفارسي: وعلت حشمته ودرجته في بغداد، حتى كانت تغلب حشمه الأكابر، والأمراء، ودار الخلافة، وكان يقرأ عليه جمٌّ غفير من الطلبة المحصِّلين، يقول في (المنقذ من الضلال) في وصف حاله، والنظامية: وأنا ممنُوٌّ بالتدريس والإفادة لثلاثمئة نفس من الطلبة ببغداد. وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة.
من أسباب نبوغ الغزالي وشهرته
تجمعت عدة عوامل كانت سبباً في نبوغ الغزالي وشهرته ؛ منها:
– نشأته العلمية: فقد كان شغوفاً بالعلم، باحثاً عن اليقين، وعن حقائق الأمور، ودرس علوم عصره، ونبغ فيها، وفاق أقرانه.
– ما كان يتمتع به من حافظة قوية.
– ما كان يتمتع به من شدة الذكاء، فقد كان شديد الذكاء، سديد النظر، مفرط الإدراك، بعيد الغور، غواصاً على المعاني الدقيقة.
– تدريسه بالمدرسة النظامية التي أنشأها السلاجقة لتعليم مبادئ أهل السنة، فقد كان ذلك من أسباب شهرته.