لقد خلق الله سبحانه الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليقوم بواجب الخلافة في الأرض وإعمارها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة:30). وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام:165).
وكرّم الله سبحانه الإنسان وجعله سيدًا على جميع المخلوقات، وسخر له كل ما في هذا الكون ليكون تحت إمرته.
يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ (الإسراء:70).
وقال سبحانه : ﴿اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:12-13) .
وكان لا بد لهذا الإنسان الذي عهد الله عز وجل له بهذه المهمة من قانون ضابط يحقق به غاية الاستخلاف والإعمار لهذا الكون، ولذا جاءت رسالة الإسلام الخاتمة والوارثة رسالات السماء، فأقرت كل حق به ينال الإنسان حياة رغدة في الدنيا وحياة طيبة في جوار ربه يوم القيامة، وبالتالي فإن قضية حقوق الإنسان لم تكن يومًا بعيدة عن تناول علماء المسلمين قديمًا ، فقد قرر فقهاء الشريعة أن غاية الشرع هو عبادة الله على بصيرة، وتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وبالتالي يتحقق للإنسان الفوز في الدنيا والآخرة.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها”.
ويقول الإمام ابن القيم: “فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه”.
ولكن هذا التراث الإسلامي في مجال التشريع وحقوق الإنسان أصبح مجهولاً لكثير من المسلمين المثقفين فضلاً عن العوام وأنصاف المثقفين، نظرًا لما يشوب الكثير من المسلمين في الآونة الأخيرة من ظواهر التغريب والتبعية لكل ما هو غربي، والتنكر لتراث الأمة المجيد وماضيها المشرق، وقبل كل ذلك وبعده -وهو أسوأ ما في الأمر- التنكر لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ بزعم أنهما من مصادر التعبد والذكر واستجلاب البركات والرحمات من الله، وليسا من مصادر التشريع والتقنين، وليس فيهما ما يسمن أو يغني من جوع تقنيناتنا وتشريعاتنا في مجالات الحياة المختلفة. ويقف وراء هذه الترهات والأباطيل فريق كبير من المستغربين والمنهزمين نفسيًّا والعلمانيين وأنصاف المثقفين في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
ويتجاهل هذا الفريق أن الحضارة الإسلامية عرفت هذه الحقوق، ومارستها “قديمًا لا كمجرد حقوق للإنسان وإنما كفرائض إلهية وتكاليف وواجبات شرعية” تفرض على كل من تتعلق به مراعاتها؛ لا يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها. وبالتالي فإن “المبادئ التى طالما صدرناها للناس يعاد تصديرها إلينا على أنها كشف إنساني ما عرفناه يومًا ولا عشنا به دهرًا!! ولا غرو. لقد كان ظهور هذه المبادىء منذ اندلاع الثورة الفرنسية شيئًا جديدًا فى حياة الغرب . والكعكة فى يد اليتيم عجب.
وقد أبلغ الشيخ محمد الغزالي في السخرية من هذا الفريق عندما قال: “ونخشى أن يجىء يوم يصدر الغرب إلينا فيه غسل الوجوه والأيدى والأقدام على أنه نظافة إنسانية للأبدان . فإذا قلت : ذلك هو الوضوء الذى نعرفه . قال لك المتحذلقون المفتوتون : لماذا لا تعترف بتأخرك وتقدمه ؟؟ وفقرك وغناه ؟؟ ومع هذا الجهل المطبق فلن نكذب على أنفسنا ولن نفتأ نذكر ما لدينا لا لنقول فقط : بضاعتنا ردت إلينا ؟ بل لنهيب بالقاصرين والغافلين أن يستردوا ثقتهم فى أنفسهم وحضارتهم ، ويحددوا بدقة ما لهم وما عليهم”.
ويوجد على الجانب الآخر فريق ثان يدفن هذه الكنوز الإسلامية التي تحمل في طياتها النموذج الأروع لتكريم الفرد في تاريخ التقنين في المجتمع البشري كله، يدفنها تحت رماد التعصب المقيت للمذهب لا للدليل، مما يدفع أبناء كل مذهب إلى التركيز على كل ما من شأنه تدعيم مذهبه ولو كان ضعيفا وتفنيد قول الآخر ولو رآه قويا، فحجبوا بهذا التعصب جانبا مشرقا في التراث الإسلامي ولم يولوه الأهمية اللازمة حتى يبين نوره للعالمين، حتى صار كالجوهرة الدفينة تحتاج إلى عيني صيرفي حاذق كي ينتشلها ويعرف قيمتها.
كما أن هناك من المسلمين من يعتبر الإسلام ديناً لا دولة، أي يقتصر على الجانب التعبدي الخالص الذي لا مدخل للسياسة فيه، خوفًا من انطلاق ذلك المارد الذي طال سباته من قمقمه، وبما أن حقوق الإنسان تتعلق في أحد جوانبها بالصعيد السياسي فقد جرى إهمال قضية إبراز هذا الجانب من الحقوق في كثير من تلك المجتمعات، ونسي هذا الفريق أن الله حينما شرع حقوق الإنسان لم يقف فيها عند حدود التوصيات، وإنما ارتقى بها إلى درجة أنه اعتبرها من نوع الفرائض والواجبات الدينية كالصلاة والصيام على حد سواء.
المصادر والمراجع :
– القرآن الكريم
– ابن تيمية:منهاج السنة النبوية ،ط1، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،الرياض.
– ابن القيم:بدائع الفوائد ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
– محمد الغزالي: حقوق الإنسان: ط1 دار نهضة مصر.
– محمد عمارة:، الإسلام والأمن الاجتماعي، ط1 دار الشروق – القاهرة.