لا تعالج المنهجية الإسلامية قضية الأخلاق في الحضارة الإسلامية ومسألة المعايير الأخلاقية من منطلق المتعة الذهنية، ولا تقتصر أهدافها فقط على تصويب المنهج أو مجرد تنقيح طرق التمحيص والتدقيق كما فعل العلامة ابن خلدون، أو توجيه المنهج حتى يلائم الحركة الإصلاحية كما فعل ذلك في إطار وضعي أوجست كونت وأضرابه، بل إن المعالجة المنهجية الإسلامية تهدف إلى الجمع بين طرق تحري الحقيقة في العلم وتحقيق المصلحة الاجتماعية في آنٍ واحد.
وإذا كان الواقع الاجتماعي العربي الإسلامي يموج بتغيرات وتيارات متعددة في شتى جوانب الوجود الاجتماعي؛ فإن الذي يجمع بينها جميعًا في أسمى المراتب التيار الفكري الإسلامي، وفي أدناه حالة التخلف بدرجاته المتفاوتة بين قطر وآخر.
ولا نعني بالتخلف مستوى التدني الاقتصادي فقط، بل الجدب الاجتماعي والسياسي والأخلاقي أيضًا. وإذا كان العالم الإسلامي يعيش منذ أمد بعيد في حالة تخلف حضاري؛ فإن ما يتربع على قمة هذا التخلف هو التردي العلمي والتقني، والجمود والبطء في حركة الاجتهاد إزاء قضايا الدين ومستحدثات الحياة.
ويرتبط ما سبق وجوبًا بنموذج التبعية الاقتصادية والفكرية والتقنية، فإذا أرادت الأمة كسر قيود التخلف فلا مفر من حركة إحياء للمعرفة والعلم. ولن يحدث ذلك إلا باستنفار لمشروع نهضة علمية أو ثورة معرفية تبدأ بالقضاء على الأمية، والارتقاء بمستوى التعليم، ونظم حفظ المعلومات، وتوظيف المعرفة، وتسخير التقنيات الصناعية والزراعية والتربوية. ولن يتحقق ذلك إلا بإرساء قواعد البحث العلمي وتنشيط حركته في المجالات الطبيعية والإنسانية على قدر سواء. وإذا كان للعلم ضوابطه وقواعده المنهجية فإن هذه الضوابط – في نفس الوقت – يحيط بها وتحرسها المعايير الأخلاقية.
وتتبنى الدراسة الراهنة قضية مؤداها أن أي منهجية لبناء الصرح العلمي للأمة العربية الإسلامية لا بد أن تنتمي بالضرورة للسياق الحضاري الإسلامي الذي أثمر في عهود الإسلام الأولى تراثًا علميًّا رصينًا استرشد به العلم في وضعه الحديث، وأن المنهجية الإسلامية بمعاييرها الأخلاقية التي تنبثق من أصول الإسلام ومبادئه، وأيضًا من خبرات علماء المسلمين الأوائل لها نشأتها وتطورها وتجاربها في خضم المعارف الطبيعية والعلوم الدينية، فإذا كانت المدنية الغربية الحديثة قد استنارت بمعالم المنهجية الإسلامية فمن باب أولى يجب أن نستنير نحن بها نحو طريق المعرفة.
وإذا اتفقنا على أن مناهج الفكر ونوعيات النظم والمذاهب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا يمكن أن تنعزل عن الإطار الحضاري للمجتمع وتاريخه -كما نشاهد في عالمنا اليوم- فإن منهجية البحث ينبغي أن تلائم الأوضاع المادية والحالة العقائدية الإيمانية في مجتمعها؛ فتربط منذ نشأتها وتطورها بين الإيمان بالله والمعرفة والعلم في أساسها المنقى والاستقرائي، وتحيط هذه المنهجية بمناهج الاستدلال العلمي من ناحية، ومنهج الاستدلال على إثبات وجود الله وحكمته من ناحية أخرى، حيث يقول تعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” (فصلت: 40).
ولا يقصد بالإطار الحضاري لأمة من الأمم مجرد الطلاسم والرموز والفنون والآداب والمنشآت التي أسستها والتي تميزها عن غيرها في الملامح الخارجية، إنما يقصد به -أي الإطار الحضاري- المضمون الفكري الذي تبنته هذه الحضارة واعتقدت فيه لدرجة الإيمان والتضحية من أجله، ويُقصد به -أيضًا- المنهج العقلي أو أسلوب التفكير الذي اختطته لنفسها لإرساء القواعد الحضارية.
وإذا قارنا بين عدة حضارات متمايزة فإننا نجد أن القاسم المشترك الذي نراه في نماذجها هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، وهذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، ومن ثَم نجد أن الاحتكام إلى العقل هو الأساس الذي تقام عليه الحضارات حينما قامت، وبغيابه تؤول إلى الانحدار.
ولا يعني الاحتكام إلى العقل فصل الإيمان بالله عنه. فإذا كان هذا الإيمان تذوقًا وإحساسًا قلبيًّا ووجدانيًّا فإنه يندمج بالفكر أو العقل ولا ينفصل عنه؛ ولذلك تمايزت حضارات عن غيرها لارتكازها على قواعد إيمانية تغلغلت في طرائق وتفكير أهل هذه الحضارات.
المنهجية الوضعية الإسلامية
وتختلف المنهجية في إطارها الوضعي عنها في الإطار الإيماني الإسلامي. فالمنهجية الوضعية في حضارة الغرب ارتكزت على فهم جزئيات الحياة بالعلوم والقوانين التي تفسِّر وقائع الطبيعة والاعتماد على الاختبارات المعملية للتوصل إلى المعرفة التي تضع حدودها في إطار الفهم الجزئي للوجود.
أما المنهجية في الإطار الحضاري الإسلامي فتجتاز حدود المعرفة في إطار الفهم الكلي للوجود. فالإسلام يحيط بفهم كليات الحياة؛ وذلك لأنه يفسرها تفسيرًا شاملاً طائلاً الأبعاد النهائية كالموت والولادة. وتضع المنهجية الإسلامية في اعتبارها الاختبارات الوجدانية بالحدس كأحد مقومات المعرفة الإيمانية التي تجاوز القصور في المعرفة الوضعية. ومن ثَم نجد أن المنهجية الإسلامية تعالج نوعي المعرفة: العلمية والإيمانية، وينعكس ذلك في اتخاذ الإسلام وتعاليمه منهجًا للحياة التي تخضع لقوانين وسنن طبيعية سخَّرها الله لخلقه؛ وبذلك تتمايز الحضارة الإسلامية في جمعها بين البعدين المادي والروحي في منظومة حضارية واحدة.
وإذا كانت المنهجية قد ارتبطت بالإطار الحضاري؛ فإن ربطها بمذهبيّات هذه الحضارة أوثق وأشد، وهذا ما يؤدي إلى تطويع منهج التفكير لتحقيق الغايات المذهبية التي تدعو إليها وتبشر بها، ولا يقتصر ذلك فقط على الحدود النظرية للمنهج؛ بل يمتد إلى المنهجية التطبيقية لنتائج العلم، وهو ما أدى إلى تسخير هذه النتائج للمصالح المذهبية، وغالبًا ما يصطدم هذا التسخير بالمعايير الأخلاقية والإنسانية المصطلح عليها، ولكنه يجد في نفس الوقت مبررات انتهاك قواعد الأخلاق تحت راية حماية الحرية أو السلام. والأمثلة على ذلك كثيرة، وأقربها تكريس التفرقة العنصرية والفصل العنصري وفرض الهيمنة العسكرية والاقتصادية من قبل الرجل الأبيض باعتباره رمزا للحضارة الغربية المتفوقة.
وقد أصبحت قضية تأثر منهجية البحث باختلاف المذهبيات من القضايا التي كثر فيها الجدل، خاصة في نطاق منهجية العلوم الإنسانية، إلى الحد الذي أطلقنا عليه في دراسة سابقة بالقهر الأيديولوجي أو المذهبي الذي يؤثر في نماذج البحث التصورية، وما يتبع ذلك من تباين في طرائق البحث لنفس القضية أو المشكلة المطروحة دراستها، وأيضًا اختلاف المقاييس والنتائج، وما يترتب على ذلك من مفارقات في السياسات الاجتماعية ونماذج التخطيط.
مقارنات منهجية
ويُضرب في ذلك عديد من الأمثال في مجال تفسير ظواهر الجريمة والانحراف؛ حيث تعدَّدت لاختلاف الإطار المرجعي أو التصوري الذي يطل بها عالم الجريمة على المشكلة، وكذلك نظريات التزايد أو النمو السكاني. فثمَّة فارق وبون شاسع يبن معالجة المالتوسية والماركسية لنفس الظاهرة، ولا يقف الحد عند اختلاف كل من الاتجاهين في المصطلحات والافتراضات، بل في القيم التي يتبناها كل اتجاه، فقد جمعت المالتوسية بين البروتستانتية المحافظة التي تؤكد على الاستقلالية والعمل الجاد والمنطقية والوضعية. أما قيم الماركسية فإنها تجسِّد شر الرأسمالية التي تؤذي الجماهير لحساب فئات محدودة؛ لتؤكد في النهاية أن حل هذه الشرور بالتحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية. والواقع أن كلاًّ من الاتجاهين لا يطرح افتراضات لها وجودها الواقعي في العالم الإمبريقي التجريبي، بل لها الأحكام القيمية التي تهدف إلى وجوب تحقيقها.
وإذا واجهت المنهجية الإسلامية نفس المشكلة )تزايد السكان( فإن المنطلق التصوري لها مستمد من مواجهة المشكلة بالعمل الجاد المستمر والتخطيط للإنتاج والادخار وترشيد الاستهلاك، وذلك من وحي الآية الكريمة في سورة يوسف “قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ” (يوسف: 47).
المنهجية والقيم
تذخر العلوم الإنسانية والاجتماعية بنماذج فكرية متضاربة وتفسيرات متناقضة لنفس الموضوعات والمشكلات. وتقود هذه النماذج وما تتضمنه من قيم إلى تحميل النتائج تفسيرات الأهداف المذهبية، وأيضًا مصالح الفئات أو الطبقات أو الشعوب الغالبة أو المسيطرة. وهذا ما حدث عندما زعموا انخفاض مستويات ذكاء الملونين وارتفاعه بالنسبة للبيض تدعيمًا لنزعات التمييز والفصل العنصري.
وقد تمخَّض اتجاهان إزاء مشكلة القيم التي شككت في مستوى موضوعية العلوم الاجتماعية؛ فإما أن تُكبَت القيم وأن يتركها الباحث متحررًا منها، وإما أن نُقرَّ بوجودها في سياق منهجية البحث سواء بإرادتنا أو بدونها، ويرى أصحاب هذا الاتجاه استحالة عزل أو فصل القيم عن عملية اختيار مشكلة البحث أو تطبيق نتائجه.
ولقد تأثرت منهجية البحث الاجتماعي بمجرد الإقرار بفاعلية القيم؛ وهو ما جعل أصحاب هذا الاتجاه يفضلون استخدام المناهج الكيفية أكثر من المناهج الكمية؛ رافضين الاحتذاء بالنموذج الوضعي في العلم الاجتماعي والالتزام بحبكته المنهجية المطبقة في العلوم الطبيعية. ويطلق على هؤلاء أصحاب الاتجاه الإنساني أو الكيفي.
موقف المنهجية الإسلامية
لا يعاني من يتبنى المنهج الإسلامي -في إطار التصور القرآني- من أزمة صراع قيمي إزاء إشكالية العلوم الإنسانية، سواء فيما يتعلق بمنهجية البحث، أو بقضية الموضوعية التي يؤثر فيها إلى حد كبير الإطار التصوري أو المرجعي للباحث؛ وذلك لوجود عدة خصائص مرتبطة بطبيعة التصور القرآني، وتلك الخصائص منها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو تشريعي، وهي كالتالي:
أ – الفطرة والتنزيل: فالعمل العلمي الاجتماعي قد سبقه المنظور الإيماني، حيث إن الفطرة الكونية غير مصنوعة من بشر، بل نزل بها الوحي على الأنبياء والمرسلين حتى يصححوا ما شاب الفطرة من الإيمان بالزيف والتضليل. ويعتبر هذا التصحيح تنزيلاً يتعلم به البشر منهج التأمل والتفكير وما يمكن أن نسمّيه بمصطلح القرآن الكريم [تحري الرشد]. وأقرب الشواهد المنهجية إلينا تلك المحاورة الكونية التي أجراها الخليل إبراهيم عليه السلام: “فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين” (الأنعام: 75 – 78).
وتستمر الشواهد المنهجية لتجربة الشك المعرفي الذي طاف بفكر الخليل إبراهيم عليه السلام ليزداد إيمانًا ويضرب لنا المثل بالتجربة الإعجازية لكيفية إحياء الموتى: “قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعيًا” (البقرة: 26). وقد نستخلص من هذا التصور القرآني نموذجًا منهجيًا وهو الاحتكام إلى الفكر الإيماني من خلال المحاورة الاستقرائية للواقع الكوني.
ب – تحري الرّشد والحق: وإذا عدنا إلى الفطرة نجد أن الله سبحانه وتعالى قد زّود الإنسان بخصائص وهبات عقلية تمكنه من إعمال فكره، كإدراكه للبدهيات، ومبدأ عدم التناقض الذي يمكِّن من استنباط الأفكار، ورفض العقل الجمع بين الخطأ والصواب، أو الجمع بين الحق والباطل في آنٍ واحد.
إن ضوابط الفكر هذه هي في نفس الوقت معايير أخلاقية في منهجية البحث. ولا يقف الأمر عند فطرة الإنسان أو ما اكتسبه من قدرات عقلية، بل يهديه التنزيل إلى فريضة التفكير أو تحري الرشد والحق معًا، وهو ما نطلق عليه منهجية البحث. وقد طرح القرآن أسس هذه المنهجية التي كانت منطلقًا لعصور التنوير الإسلامي في الفقه والدين والعلوم والفنون.
المعرفة العلميــة والبرهان الإيماني
تؤكد المنهجية الإسلامية أساسًا على منهج الاستدلال في التعرف على قدرة الخالق. ويتم ذلك بإنشاء العلاقة بين المعرفة الطبيعية عن الكون أو الخلق وبين البرهان الإيماني. يقول تعالى: “أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء…” (الأعراف: 185)، ويقول تعالى: “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت” (الغاشية: 17-18).
ويذخر القرآن بالآيات التي تدعو إلى التأمل والتفكر واستخدام العقل؛ وهو ما يجعل من النشاط الفكري والعلمي جزءًا واجبًا من الحياة الناس والمجتمع.
وإذا كان الفكر أرفع مقامات النعم على الإنسان، فدونه لن تكون هداية أو ممارسة حياة، وبذلك اشترط الشرع سلامة العقل ويقظته، ومن ثم الحفاظ على سلامته، والحرص على هذه السلامة وتلك الاستقامة فريضة التزام ومسؤولية شرعية، ومن ثم تستوجب هذه المسئولية توجيه الفكر متجها إلى اجتناب الضرر وجلب النفع، وبذلك يوجه العلم النافع وجوبًا لمصلحة الناس والمجتمع في دينهم ومعاشهم، والنبي ﷺ كان دومًا يسأل الله تعالى: “اللهم إني أسألك علمًا نافعًا” (رواه أحمد وابن ماجة)، كما كان يستعيذ بالله تعالى قائلاً: “اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع” (رواه مسلم).
وحدة المعرفة
والمنهجية الإسلامية لا تنظر إلى المعرفة كشذرات متفرقة، كل منفصل عن الآخر ولا يجمعها نظام متسق، بل ترتبط وحدة المعرفة بين أجزاء الوجود الكوني رغم تباينها، في كل واحد. وتتواصل شرائح الوجود الاجتماعي والإنساني رغم اختلاف الشعوب والأمم في سياق واحد، ويتناغم هذا وذاك في كيان حكمة الخالق من الوجود والخلق.
والله تعالى يقول: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ* وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” (فاطر: 27).
ومما لا شك فيه أن منطلق تواصل العلوم والمعرفة في منظومة واحدة كبرهان على وحدانية الصانع قد أثَّر في منهجية الفكر الإسلامي من حيث انتقاء موضوعات الدراسة والبحث، وطرائق ومناهج الاستدلال والتفسير، ويقودنا إلى التساؤل عن علاقة التحيز بالمنهجية.
المنهجية الإسلامية والتحيز
لا تنفي المنهجية الإسلامية تحيزها إلى النظرة الإيمانية إلى الكون والمعرفة ويمكن أن يُطلَق على هذا النوع من التحيز اسم: التحيز نحو الموضوعية بمفهومها الإيماني لا بمفهومها المادي الوضعي. وإذا كان هذا التحيز يقتصر في المجال الإنساني على نطاق الفكر والقيم والعلاقات، فإنه في مجال العلوم الطبيعية لا مكان للتحيز في الحكم على الواقع المادي أو الطبيعي؛ لأن هذا الواقع تحكمه سنن وقوانين خلقها الله وأطلقها تحكم مادة الوجود والحياة، واكتشاف هذه السنن والقوانين العلمية يخضع لمناهج الاستدلال التي تعلمها فقهاء المسلمين من منهج القرآن وطبقوها في علوم الدين ثم في علم الطبيعة والحياة.
وقد اتضح مما أسلفنا انعدام التضاد بين القيم والعلم والمعرفة، كما اتضحت مطابقة المعايير الأخلاقية لمنهجية البحث وطرائق التفكير.
ومما يجدر الإشارة إليه أن المعايير الأخلاقية التي حث عليها الإسلام على الالتزام بها في صروف الحياة اليومية هي ذاتها التي اهتدى بها علماء المسلمين في مباحثهم الفقهية، وأدت بهم إلى تعميم مناهج بحثهم. ولقد قادهم علم استنباط الأحكام الشرعية -أي علم الفقه- إلى ابتداع علم أصول الفقه، وهو العلم الذي يحدد العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي، والذي يسميه البعض بأنه منطق علم الفقه. فإذا كان علم الفقه قد نشأ في أحضان علم الحديث فإن علم أصول الفقه قد خرج من عباءة علم الفقه، ونقصد بالعلاقة بين العلمين -الأصول والفقه- العلاقة بين النظرية والتطبيق.
تطوير المنهجية الإسلامية ظاهرة حضارية
لم تتشكل المنهجية الإسلامية من حيث القواعد والأسس بين يوم وليلة، فهي ظاهرة حضارية أخذت تنمو وتتطور مسترشدة بآيات الاستدلال القرآنية التي تساعد على تنظيم الفكر وتنسيقه. وفيما يلي عرض لمراحل نشأة وتطور هذه الظاهرة المنهجية:
أ – نشأة المنهجية الإسلامية: ولقد نشأت المنهجية الإسلامية في أول طور لها بمعايشة أحداث الوحي بحفظ القرآن جمعه وتوثيقه. وكان التواتر مصدرًا للمصداقية، ومحوره الأخلاقي هو التقوى والخشية من الكذب على الله. وكان وعد الله بحفظ الذكر مطمئنًا لقلوب الحفظة والموثقين، كما كان استيعاب نصوص القرآن والعمل بها مما علّم نخبتهم من أهل الذكر قواعد التأمل والنظر والاستدلال العقلي.
ب – المنهجية الإسلامية: تطورها ومعاييرها الأخلاقية:
1 – علوم الحديث: وتنتقل المنهجية الإسلامية إلى طور جديد عند ممارسة الأساليب المقننة لنقل التراث المعرفي وحفظه، وذلك عندما أراد المسلمون جمع أحاديث الرسول ﷺ وتصنيفها، وكانت قواعد علم الحديث في أساسها قواعد أخلاقية، فكان النظر في الأسانيد واتخاذ العدالة والضبط معيارين لترجيح الصدق وتعديل أعلام الدين وبراءتهم من الجرح والغفلة، ولكون ذلك دليلاً على القبول أو الترك.
وإذا كان علم الحديث يطلق عليه “تحمل العلم” أي مناهج تلقي العلم وأخذه، فإن هذا الجانب -أي الإسناد والرواية- تنفرد به الحضارة الإسلامية، ولا يُعرف له مثيل في الحضارات الأخرى.
2 – الإجماع: وإذا كان قد اعتُمد على منهجية علم الحديث في تدوين العلوم الدينية التي بدأت في القرن الأول للهجرة، فإن المعايير الأخلاقية التي اعتُمد عليها في تنقيح هذا العلم ورجاله هي التي أرست قواعد الإجماع كمصدر للمعرفة؛ حيث يقصد بها غلبة الاتفاق على صحة وصدق المعلومة أو الخبر أو الفكرة أو الفتوى. وقد يتساوى مبدأ التحكيم الذي يُستخدم في منهج العلم النفسي والاجتماعي اليوم مع قاعدة الإجماع عند تقنين اختبار أو أداة بحث أو استطلاع رأي أو تحديد اتجاهات لحسم بعض القضايا العلمية أو الاجتماعية.
3 – الاستدلال بالقيـاس: وتحقق المنهجية الإسلامية تقدمًا واضحًا عندما تتمرس على طرق الاستدلال والقياس الذي حث عليه النبي ﷺ في إقراره مبدأ الاجتهاد بالرأي عندما لا يندرج الأمر تحت النصوص الثابتة في الكتاب والسنة: “أجتهد رأيي ولا آلو” (رواه أحمد وأبو داود). وإذا اعتبر القياس رابع الأدلة فإليه الفضل في تطوير علوم الفقه ثم أصوله. وبهذا أصبحت الطريق ممهدة لاستلهام الأسس المنهجية للبحث في شئون الطبيعة والحياة، وكان عصر التنوير الإسلامي.
4 – الأخذ والتمثل من المعارف السابقة: ولقد أدى الالتزام الأخلاقي بأساليب تحري الصدق في التراث الديني المنقول إلى تشكُّل وتطور المنهجية الإسلامية، وكان لوضع ضوابط التفكير وإلى الاحتكام إلى العقل، الفائدة الجمة عندما اتجهت أنظار مفكري وعلماء المسلمين إلى العلوم العقلية والطبيعية، وكان أيضا التزامهم بالبدء بما انتهى إليه الأولون، وبما اصطلحنا عليه في قواعد المنهج العلمي بـ”مسح التراث أو الأدبيات الخاصة بمجالات المعرفة أو الدراسات السابقة” إحدى مراحل الممارسة المنهجية.
وقد انتهت هذه المرحلة في أواسط القرن الثالث الهجري، لا في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث كما يظن كثير من الباحثين.
أخلاقيات النقد المنهجي
ولم يقف الأمر عند حد الأخذ من المعارف الأجنبية وتمثلها كما هي، بل كان النقد المنهجي لهذه المعارف يتم بأسلوب أخلاقي، دون انتقاص قدر أصحاب هذه المعارف أو تجريحهم، انطلاقًا من المبدأ الأخلاقي الذي حفظته الجماعة المسلمة من دينها وتاريخه: أن الخَلَف مدين للسلف، وأنه ما من عالم -مهما بلغ شأنه- معصوم من الخطأ أو الزلل. وقد أرست هذه المبادئ الأسس الأخلاقية للنقد المنهجي. وقد أساء كثير من الباحثين فهم هذه الروح إذ زعموا ضعف الاتجاه النقدي لدى علماء المسلمين ووصموهم بالتبعية للفقهاء.
وينبغي في هذا الشأن أن نفرق بين علماء المسلمين في عصر التنوير العلمي من تاريخ الحضارة الإسلامية وبين ما انتهى إليه تلاميذهم في عصور الجمود والحذر من الاجتهاد وتوقفه.
ويكفى أن نتلمس الأسس الأخلاقية للنقد عندما يقول البيروني: “إنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته؛ من تقبل اجتهاد من تقدمه بالمِنَّة، وتصحيح الخلل إن عُثِر عليه بلا حشمة، وتخليد ما يلوح له فيها تذكره لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده”.
ويبلغ تكامل المنهجية الإسلامية شأوه في تحديده لعلاقة النظرية بالتجربة. وقد أوضح كل من فيديمان Wiedemann وشرام Schramm مكانة العلماء المسلمين من تأسيس قانون النظرية والتجربة، وأثرهم الواضح في روجيه بيكون Bacon, R الذي زعم أنه مؤسس المنهج العلمي الذي يقوم على التجربة كأساس للبحث في العلوم الطبيعية. غير أن مؤرخ المنطق العالم برانتل Prantl وقف ضد هذا الزعم ونفاه مؤكدًا أن روجيه بيكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية من العرب.
وقد أوضح برانتل أن مهمة العلماء المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها؛ إنما اهتموا في الواقع بمسألة أن التجربة يجب أن تسبقها النظرية، وأن التجربة بهذا المعنى واسطة تستعمل باستمرار في أثناء البحث. ويذكر فيديمان أن العرب كانوا سباقين إلى هذا الموضوع، بل إن ما توصل إليه روجيه بيكون أقل بكثير مما كان موجودًا عند العلماء العرب القدماء.
السبق في المبدأ الثنائي: النظرية والتجربة.
التجربة والإبداع
وقد يكون اكتشاف العلاقة بين النظرية والتجربة هو الذي نقل المنهجية الإسلامية والإنتاج الفكري من مرحلتي الأخذ والتمثل إلي مرحلة الإبداع التي بدأت في أواسط القرن الثالث الهجري. وبالرغم من أن مرحلة الأخذ والتمثل يفترض فيها ندرة الإبداع فإن علماء المسلمين تمكنوا من تأسيس علم لقياس الشعر، وهو علم العروض، وتطوير علوم اللغة والنحو، فضلاً عن تلك الكتلة الضخمة من الاصطلاحات الكلامية والفلسفية وعلم أصول الفقه، ونشأة علم الكيمياء. كما اعتُبر الجبر علمًا مستقلاً لا كفرع للأعمال الحسابية. كما وضعت طريقة لقياس محيط الكرة الأرضية.
ويلاحظ أن أكثرية هذا الإنتاج الفكري يغلب عليه القياس والمنهج الاستنباطي، بينما تميزت مرحلة الإبداع بالاستخدام الرصين للمنهج الاستقرائي متكاملاً مع المنهج الاستنباطي في منظومة منهجية للاستدلال العقلي. وبرز في مجال الطب والبصريات الرازي، كما برز الكندي في ميدان الآثار العلوية -أو ميتاؤرولوجيا- والماهاني في الرياضيات، وابن الهيثم في الفيزياء، والبيروني في الفلك وعلوم الأرض.
وبالرغم مما قيل من أن القرن السادس الهجري كان نهاية عصر التنوير وبداية الركود العلمي، فهناك أدلة كثيرة على أن العلوم العربية بلغت ذروتها في القرنين السابع والثامن الهجري مثل اكتشاف العلامة ابن النفيس للدورة الدموية، وعرض لسان الدين الخطيب لقضية العدوى، ووضع علم حساب المثلثات من قبل نصير الدين الطوسي، والاكتشافات الخطيرة والمتعددة في علم الرياضيات لغيّاث الدين الكاشي، والمحاولات الرائعة في علم الفلك لقطب الدين الشيرازي وابن الشاطر، ووضع ابن خلدون لفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع في القرنين السابع والثامن من الهجرة.
الضوابط الأخلاقية للملاحظة والتجربة والقياس
وفي سياق الاهتمام بالتجربة باعتبارها ضربًا من الملاحظة المشروطة، وأسلوبًا للحوار العلمي مع الواقع، أو أن الملاحظة تعني الاستماع إلى الواقع، والتجربة استجوابا له حتى ينطق عن قوانينه -فلا بد أن يحيط بهذه الخبرة البشرية ضوابط أخلاقية بالإضافة إلى المعايير العلمية. ولنتأمل ما يوصي به جابر بن حيان بالاهتمام بالتجربة وعدم التعويل إلا عليها، مع التدقيق في الملاحظة، والاحتياط وعدم التسرع في الاستنتاج، أو ما نطلق عليه اليوم الحذر من التعميم، وعدم القفز إلى النتائج. وفي هذا يقول جابر بن حيان أيضًا: “وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب؛ لأن من لا يعمل ولا يجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الاتفاق، فعليك يا بني بالتجربة لتصل إلى المعرفة”.
وتلتحم قواعد المنهج مع معايير الأخلاق عندما نتأمل بعض فقرات كتاب “المناظر” للحسن بن الهيثم عن “علم البصريات”، ونراه يقول: ومبدأ العلم أن نستأنف النظر في مباديه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا من جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي يقع عندها اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف؛ وتحسم بها سوار الشبهات.
ويتبين لنا كذلك أن الشروط التي أوردها الإمام الشافعي للقياس في حد ذاتها معايير أخلاقية، حيث يقول: “وفضلاً عن معرفة القائس بالكتاب والسنة، يجب أن يكون عالمًا بما مضى قبله من سنن وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، غير متعجل بقول، وألاَّ يمتنع عن الاستماع لمن خالفه، وأن تكون دراسته العملية مصاحبة لمعرفته النظرية. فأما من تم عقله، ولم يكن عالمًا بما وصفنا؛ فليس له أن يقول بقياس، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوق، ومن كان عالمًا بما وصفنا بالحفظ لا بطريق المعرفة فليس له أن يقول أيضًا بقياس”.
تلك كانت بعض ملامح توظيف الأخلاق لبناء المنهج في الدراسات الإسلامية. نعرضها تبيانًا لوجهة نظر البحث في القول باستحالة الفصل بين القيم والدراسة، وباستحالة التناقض بين القيم والموضوعية، فالقيم الإسلامية الأخلاقية هي التي قادت العلم نحو مزيد من الرقي والتبصير.
أ.د. صلاح عبد المتعال5>